فصل: كِتَاْبَةُ الْحَدِيْثِ وَضَبْطُهُ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح التبصرة والتذكرة ***


كِتَاْبَةُ الْحَدِيْثِ وَضَبْطُهُ

‏[‏حكم كتابةِ الحديثِ‏]‏

559‏.‏ وَاخْتَلَفَ الِصّحَابُ وَألاتْبَاعُ *** فِي كِتْبَةِ الْحَدِيْثِ، وَالإِجْمَاعُ

560‏.‏ عَلَى الْجَوَازِ بَعْدَهُمْ بالْجَزْمِ *** لِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏اكْتُبُوْا‏)‏ وَكَتْبِ ‏(‏السَّهْمِيْ‏)‏

اختلفَ الصحابةُ والتابعونَ في كتابةِ الحديثِ‏:‏ فكرِهَهُ ابنُ عمرَ وابنُ مسعودٍ وزيدُ بنُ ثابتٍ وأبو موسى وأبو سعيدٍ الخدريُّ، وآخرونَ من الصحابةِ والتابعينَ، لقولهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تَكْتُبُوا عَنِّي شَيئاً إلاَّ القرآنَ، ومَنْ كَتَبَ عنِّي شيئاً غيرَ القرآنِ فليمْحُهُ»‏.‏ أخرجهُ مسلمٌ من حديثِ أبي سعيدٍ‏.‏ وجوَّزَهُ أو فعلَهُ جماعةٌ من الصحابةِ، منهم‏:‏ عمرُ، وعليٌّ وابنُهُ الحَسَنُ، وعبدُ اللهِ بنُ عمرِو بنِ العاصِ، وأنسٌ، وجابرٌ، وابنُ عبَّاسٍ، وابنُ عُمَرَ أيضاً، وعطاءٌ، وسعيدُ بنُ جُبيرٍ، وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، وحكاهُ القاضي عياضٌ عن أكثرِ الصحابةِ والتابعينَ، قالَ‏:‏ ثمَّ أجمعَ المسلمونَ على جوازِها، وزالَ ذلكَ الخِلافُ‏.‏ ومما يدلُّ على الجوازِ قولُه صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الصحيحِ‏:‏ «اكتبوا لأبي شَاهٍ»‏.‏ ورَوَى أبو داودَ مِنْ حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو، قالَ‏:‏ كنتُ أَكتبُ كلَّ شيءٍ أسمعُهُ مِنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم» … فذكَر الحديثَ‏.‏ وفيهِ‏:‏ أَنَّهُ ذكرَ ذلكَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقالَ لهُ‏:‏ اكْتُبْ‏.‏ وفي صحيحِ البخاريِّ مِن حديثِ أبي هريرةَ قالَ‏:‏ ليسَ أحدٌ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أكثرَ حديثاً عنهُ منِّي إلاَّ ما كانَ مِنْ عبدِ الله بنِ عمرٍو فإنَّهُ كانَ يكتُبُ ولا أَكْتُبُ‏.‏ وهذانِ الحديثانِ هما المرادُ بقولي‏:‏ ‏(‏وَكَتْبِ السَّهْمِيْ‏)‏، أريدُ‏:‏ عبدَ الله بنَ عمرٍو السهميَّ‏.‏ وهذا الاستدلالُ من الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ ممَّا لم أُميِّزْهُ من كلامِهِ‏.‏ وقد ذكرَ ابنُ عبدِ البرِّ في كتابِ ‏"‏ بيانِ آدابِ العِلْمِ ‏"‏‏:‏ أنَّ أبا هريرةَ كانَ يكتُبُ، قالَ‏:‏ والروايةُ الأُولى أصحُّ‏.‏ وقد اختُلِفَ في الجوابِ عن حديثِ أبي سعيدٍ والجمعِ بينَهُ وبينَ أحاديثِ الإذنِ في الكتابِةِ، فقيلَ‏:‏ إنَّ النهيَ منسوخٌ بها، وكانَ النهيُ في أَوَّلِ الأَمْرِ لخوفِ اختلاطِهِ بالقرآنِ، فلمَّا أُمِنَ ذلكَ أُذِنَ فيهِ، وجمعَ بعضُهُم بينهما‏:‏ بأَنَّ النهيَ في حقِ مَنْ وُثِقَ بحفظِهِ وخيفَ اتَكالُهُ على خَطِّهِ إذا كَتَبَ، والإذْنُ في حقِّ مَنْ لا يُوْثَقُ بحفْظِهِ، كأبي شاهٍ المذكورِ‏.‏ وحَمَلَ بعضُهم النهيَ على كتابةِ الحديثِ مع القرآنِ في صحيفةٍ واحدةٍ؛ لأنَّهُم كانوا يسمعونَ تأوْيِلَ الآيةِ فربَّما كتبوْهُ مَعَهُ فَنُهُوْا عَنْ ذلكَ، لخوفِ الاشْتِبَاهِ، واللهُ أَعلمُ‏.‏

‏[‏ضبطُ الكتاب‏]‏

561‏.‏ وَيَنْبَغِي إِعْجَامُ مَا يُسْتَعْجَمُ *** وَشَكْلُ مَا يُشْكِلُ لاَ مَا يُفْهَمُ

562‏.‏ وَقِيْلَ‏:‏ كُلِّهِ لِذِي ابْتِدَاءِ *** وَأَكَّدُوْا مُلْتَبِسَ الأَسْمَاءِ

563‏.‏ وَلْيَكُ فِي الأَصْلِ وَفِي الْهَامِشِ مَعْ *** تَقْطِعْيِهِ الْحُرُوْفَ فَهْوَ أَنْفَعْ

يَنْبَغِي لطالبِ العلمِ ضبطُ كتابهِ بالنَّقْطِ والشَّكْلِ ليؤدَّيهُ كما سمعَهُ‏.‏ فقد روينا عن الأوزاعيِّ، قالَ‏:‏ العَجْمُ نورُ الكتابِ، قالَ ابنُ خَلاَّدٍ‏:‏ هكذا الحديثُ، والصوابُ الإعَجامُ، وهو النَّقْطُ، أي‏:‏ يُبَيِّنُ التاءَ من الياءِ، والحاءَ من الخاءِ، قالَ‏:‏ والشَّكْلُ تقييدُ الإعراْبِ‏.‏ ثُمَّ اختلفوا هلْ يقتصرُ على ضَبْطِ المُشْكِلِ، أو يضبطُهُ هو وغيرُهُ‏؟‏ فقالَ عليُّ بنُ إبراهيمَ البغداديُّ في كتابِ ‏"‏سِمَاْتِ الخَطِّ ورقومِهِ‏"‏‏:‏ إِنَّ أهلَ العلمِ يكرهون الإعْجَامَ والإعرابَ إلاَّ في المُلْتَبسِ‏.‏ وقالَ القاضي عياضٌ‏:‏ النَّقْطُ والشَّكْلُ مُتَعَيِّنٌ فيما يُشْكِلُ وَيُشْتَبهُ‏.‏ وقالَ ابنُ خَلاَّدٍ‏:‏ قالَ أصحابُنا‏:‏ أمَّا النَّقْطُ فلابُدَّ منهُ؛ لأنَّهُ لا تُضْبَطُ الأشياءُ المُشْكِلَةُ إلاَّ بهِ، وقالَوا‏:‏ إنما يُشْكَلُ ما يُشْكِلُ ولا حاجةَ إلى الشَّكْلِ مع عدمِ الإشكالِ، قالَ‏:‏ وقالَ آخرونَ‏:‏ الأَولَى أَنْ يُشْكَلَ الجميعُ‏.‏ قالَ القاضي عياضٌ‏:‏ وهذا هو الصَّوابُ لا سِيَّمَا للمُبْتَدِئ وغيرِ المتبحِّرِ في العلمِ فإنَّهُ لا يميِّزُ ما يُشْكِلُ مما لا يُشْكِلُ، ولا صوابَ وجهِ الإعرابِ للكلمةِ من خَطَئِهِ‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏كلِّهِ‏)‏، مخفوضٌ بالإضافةِ، أي‏:‏ وقيلَ‏:‏ يَنْبَغِي شَكْلُ كُلِّهِ‏.‏ وقولي‏:‏ ‏(‏لِذِي ابتِدَاءِ‏)‏، ليسَ بقيدٍ بمعنى أَنَّهُ يَشْكُلُ للمُبْتَدِئ فقطْ، وإنما هو كالتعليلِ لمنْ يقولُ‏:‏ يُشْكَلُ الكلُّ لأجلِ المبتدئ، فهو مُشْكِلٌ عليهِ، وربَّمَا ظُنَّ أَنَّ الشيءَ غيرُ مُشْكِلٍ لوضوحِهِ، وهو في الحقيقةِ محلُّ نظرٍ محتاجٌ إلى الضَّبْطِ‏.‏

ووقعَ بينَ العلماءِ خلافٌ في مسائلَ مرتَّبةٍ على إعرابِ الحديثِ، كحديثِ‏:‏

«ذَكَاةُ الْجَنِيْنِ ذَكَاةُ أُمِّهِ»، فاستدلَّ بهِ الجمهورُ، كالشافعيةِ والمالكيةِ وغيرِهم، على أَنَّهُ لا تجبُ ‏(‏4‏)‏ ذكاةُ الجنينِ، بناءً على أَنَّ قولَهُ‏:‏ ذكاةُ أُمِّهِ مرفوعٌ، وهو المشهورُ في الروايةِ‏.‏ ورجَّحَ الحنفيونَ الفتحَ على التشبيهِ، أي‏:‏ يُذَكَّى مثلَ ذكاةِ أُمِّهِ، ونحوِ ذلكَ مِنَ الأحاديثِ التي يَتَرتبُ الاحتجاجُ بها على الإعْرَاْبِ‏.‏ ثم إنَّهُ ينبغي الاعتناءُ بضبطِ ما يَلْتَبِسُ من الأسماءِ، قالَ أبو إسحاقَ النَّجيرميُّ‏:‏ أَوْلَى الأَشياءِ بالضبطِ أسماءُ الناسِ؛ لأَنَّهُ لا يَدْخُلُهُ القياسُ، ولا قَبْلَهُ ولا بَعْدَهُ شيءٌ يدلُّ عليهِ‏.‏ وذكرَ أبو عليٍّ الغَسَّانيُّ‏:‏ أَنَّ عبدَ اللهِ بنَ إدريسَ، قالَ‏:‏ لَمَّا حدَّثَني شعبةُ بحديثِ أبي الحوراءِ السعديِّ عَنِ الحسَنِ بنِ عليٍّ كتبتُ تحتَهُ‏:‏ حوُرٌ عِينٌ لئلاَّ أَغْلَطَ، يعني‏:‏ فيقرأهُ‏:‏ أبي الجوزاءِ- بالجيمِ والزايِ-‏.‏

وأما صورةُ ضَبْطِ المُشْكِلِ، فقالَ القاضي عياضٌ‏:‏ جرى رسمُ المشايخِ وأهلِ الضَّبْطِ في الحروفِ المُشْكِلَةِ، والكلماتِ المُشْتَبِهَةِ إذا ضُبِطَتْ وصُحِّحَتْ في الكتابِ أَنْ يُرْسَمَ ذلكَ الحرفُ المُشْكِلُ مُفْرداً في حاشيةِ الكتابِ قُبَالَةَ الحرفِ بإهمالِهِ، أو نَقْطِهِ‏.‏ وعَلَّلَ ذلكَ بأنَّ الانفرادَ يرفعُ إِشكالَ الالتباسِ بضبطِ ما فوقَهُ وتحتَهُ من السطورِ، لا سِيَّمَا معَ دقةِ الكتابِ وضيقِ الأَسطرِ‏.‏ وذكرَ ابنُ الصلاحِ نحوَهُ‏.‏ ولَمْ يَتَعَرَّضَا لتقطيعِ حروفِ الكلمةِ المُشْكِلَةِ التي تكتبُ في هامشِ الكتابِ، وقد رأيتُ غيرَ واحدٍ من أَهْلِ الضبطِ يفعلُهُ وهوَ حسنٌ وفائدَتُهُ أنهُ يُظهِرُ شَكْلَ الحرفِ بكتابتهِ مفرداً في بعضِ الحروفِ، كالنون والياء المثناة من تحتُ‏.‏ بخلافِ ما إذا كُتِبَتِ الكلمةُ كلُّها، والحرفُ المذكورُ في أَوَّلِها أَوْ وَسَطِها، واللهُ أعلمُ‏.‏ قالَ ابنُ دقيقِ العيدِ في ‏"‏ الاقتراح ‏"‏‏:‏ ومِنْ عادةِ المتُقِنِيْنَ أَن يبالغوا في إيضاحِ المُشْكِلِ فيفرِّقُوا حروفَ الكلمةِ في الحاشيةِ ويَضْبِطُوْهَا حَرْفاً حَرْفاً‏.‏

‏[‏كتابة الحديث بالخطِّ الرقيق‏]‏

564‏.‏ وَيُكْرَهُ الْخَطُّ الرَّقِيْقُ إِلاَّ *** لِضِيْقِ رَقٍّ أَوْ لِرَحَّالٍ فَلاَ

565‏.‏ وَشَرُّهُ التَّعْلِيْقُ وَالْمَشْقُ، كَمَا *** شَرُّ الْقِرَاءَ ةِ إذا مَا هَذْرَمَا

يُكْرَهُ الخطُ الرقيقُ؛ لأَنَّهُ لا ينتَفِعُ به مَنْ في نظرِهِ ضَعْفٌ‏.‏ وربَّمَا ضَعُفَ نظرُ كاتبِهِ بعدَ ذلكَ فلاَ ينتفعُ بهِ، كَمَا قالَ أحمدُ بنُ حنبلٍ لابنِ أخيهِ حنبلِ بنِ إسحاقَ ورآهُ يكتبُ خَطَّاً دقيقاً‏:‏ لا تَفْعَلْ أحوجَ ما تكونُ إليهِ يخونُكَ‏.‏ وهذا إذا كانَ لغيرِ عُذْرٍ فإنْ كانَ ثَمَّ عُذْرٌ كضِيقِ الوَرَقِ أو الرَّقِّ الذي يَكْتُبُ فيهِ، أو كانَ رَحَّالاً في طلبِ العلمِ يريدُ حملَ كُتُبِهِ معهُ فتكونُ خفيفةَ الْحَمْلِ؛ فلا يُكْرَهُ ذلكَ‏.‏ ويُستَحَبُّ لهُ تحقيقُ الخطِّ وتجويدُهُ دونَ الْمَشْقِ والتَّعْلِيقِ‏.‏ وقد ذكرَ ابنُ قتيبةَ أَنَّ عمرَ بنَ الخطابِ قالَ‏:‏ شرُّ الكتابةِ المَشقُ وشرُّ القراءةِ الهَذْرَمةُ، وأجودُ الخَطِّ أبينُهُ‏.‏ انتهى‏.‏ والْمَشْقُ‏:‏ سرعةُ الكتابةِ، قالَه الجوهريُّ‏.‏ وذكر ابنُ قتيبةَ أيضاً عن إبراهيمَ بنِ العباسِ قالَ‏:‏ وزنُ الخطِّ وزنُ القراءةِ، أجودُ القراءةِ أبينُها، وأجودُ الخطِّ أبينُهُ‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏وَشَرُّهُ‏)‏ هو بالشينِ المعجمةِ، أي‏:‏ وَشرُّ الخطِّ‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏هَذْرَمَ‏)‏ هو بالذالِ المعجمةِ، والهذرمةُ‏:‏ السرعةُ في القراءةِ، قالَهُ الجوهريُّ‏.‏

‏[‏كيفية ضَبْطِ الحرفِ المُهْمَلِ‏]‏

566‏.‏ وَيُنْقَطُ الْمُهْمَلُ لاَ الْحَا أَسْفَلاَ *** أَوْ كَتْبُ ذَاكَ الْحَرْفِ تَحْتُ مَثَلاَ

567‏.‏ أَوْ فَوْقَهُ قُلاَمَةً، أَقْوَالُ *** وَالْبَعْضُ نَقْطَ الِسّيْنِ صَفَّاً قالَوْا

568‏.‏ وَبَعْضُهُمْ يَخُطُّ فَوْقَ الْمُهْمَلِ *** وَبَعْضُهُمْ كَالْهَمْزِ تَحْتَ يَجْعَلِ

هذا بيانٌ لكيفيةِ ضَبْطِ الحرفِ المُهْمَلِ، قالَ القاضي عياضٌ‏:‏ وكما نأمُرُهُ بنَقْطِ ما يُنقطُ للبيانِ، كذلكَ نأمرُهُ بتبيينِ المُهْمَلِ‏.‏ ثُمَّ ذكرَ علاماتٍ يُضْبَطُ بها الحرفُ المهملُ‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ وسبيلُ الناسِ في ضبطِها مختلفٌ‏.‏ فمَنْهم من يَقْلِبُ النُّقَطَ الذي فوقَ المعجماتِ تحتَ ما يشاْكِلُهَاْ من المبهماتِ فينقطُ تحتَ الراءِ والطاءِ والصادِ والعينِ ونحوِها من المبهماتِ‏.‏ واختلفوا في كيفيةِ نُقَطِ السينِ المُهْمَلةِ من تحتُ، فقيلَ‏:‏ هوَ كصورةِ النَّقْطِ مِنْ فَوقُ، وذكرَ بعضُهم أَنَّ شكلَهُما مختلفٌ فيجعلُ النقطَ فوقَ المعجمةِ، كالأثافي وتحتَ المُهْمَلةِ مبسوطةً صَفَّاً، وهو المرادُ بقولي‏:‏ ‏(‏والبَعْضُ نَقْطَ السِّيْنِ صَفَّاً، قالَوا‏)‏‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏لا الحا‏)‏، هو استثناءٌ لبعضِ الحروفِ المُهْمَلةِ مما يُنقطُ تحتَهُ، وهو الحاءُ ولم يستثْنِها ابنُ الصلاحِ تَبَعَاً للقاضي عياضٍ‏.‏ ولابدَّ من استثنائِها وإلاَّ فلو فعلَ ذلكَ لاشتبهَتْ بالجيمِ فلاَ يدخلُ هذا الحرفُ في عمومِ هذهِ العلامةِ للمُهْملِ‏.‏

والعلامةُ الثانيةُ للحَرْفِ المُهْمَلِ‏:‏ أَنْ يَكْتُبَ ذلكَ الحرفَ المُهْمَل بعينهِ مفرداً تحتَ الحرفِ الذي يُشارُ إلى إهمالهِ، فيجعلَ تحتَ الحاءِ المهملةِ حاءً مفردةً صغيرةً، وكذا تحتَ الدالِ والصادِ والطاءِ والعينِ‏.‏ قالَ القاضي عياضٌ‏:‏ «وهو عملُ بعضِ أهلِ المشرقِ والأندلسِ»‏.‏ وإلى هذا أَشرتُ بقولي‏:‏ ‏(‏أو كَتْبُ ذاكَ الحَرْفِ تَحْتُ‏)‏، وهو خبرٌ لمبتدإٍ محذوفٍ تقديرُه‏:‏ أو علامتُهُ كَتْبُ ذلكَ الحرفِ‏.‏

والعلامةُ الثالثةُ‏:‏ أنْ يجعلَ فوقَ الحرفِ المُهْمَلِ صورةَ هلالٍ كَقُلاَمةِ الظُّفرِ مُضْجَعةً على قَفَاها‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ إنَّ هذهِ العلامات الثلاثَ شائعةٌ معروفةٌ‏.‏

والعلامةُ الرابعةُ‏:‏ أَنْ يُجعلَ فوقَ المهمَلِ خَطٌّ صغيرٌ‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ وذلكَ موجودٌ في كثيرٍ من الكتبِ القديمةِ، ولا يَفْطِنُ لهُ كثيرونَ‏.‏ قلتُ‏:‏ وسمعتُ بعضَ أهلِ الحديثِ يفتحُ الراءَ من رِضْوان، فقلتُ‏:‏ لهُ في ذلكَ، فقالَ‏:‏ ليسَ لهم رِضوانٌ-بالكسرِ-، فقلتُ‏:‏ إنما سُمِّي بالمصدرِ وهو بالكَسْرِ، فقالَ‏:‏ وجدْتُهُ بخطِّ فلانٍ- بالفتحِ- وسَمَّى مَنْ لا يحضُرُنِي ذكْرُه الآنَ‏.‏ ثُمَّ إنِّي وجدْتُ بعدَ ذلكَ في بعضِ الكتبِ القديمةِ هذا الاسمَ وفوقَهُ فتحةٌ فتأمَّلْتُ الكتابَ فإذا هو يَخُطُّ فوقَ الحرفِ المهملِ خطَّاً صغيراً فعرفْتُ أَنَّهُ عَلاَمَةُ الإهمالِ لا الفتحِ، وأَنَّ الذي قالَهُ بالفتحِ من ههنا أُتِي‏.‏ لكنْ ذكرَ القاضي عياضٌ عن بعضِ أهلِ المشرقِ‏:‏ أنَّهُ يُعَلِّمُ فوقَ الحرفِ المهملِ بخطٍّ صغيرٍ يُشْبِهُ النَّبْرَةَ، وذكرَ الجوهريُّ، وابنُ سِيْدَه‏:‏ أَنَّ النَّبْرَةَ الهمزةُ، واللهُ أعلمُ‏.‏

والعلامةُ الخامسةُ‏:‏ أنْ يجعلَ تحتَ الحرفِ المهملِ مِثْلَ الهمزةِ حكاهُ ابنُ الصلاحِ عن بعضِ الكتبِ القديمةِ‏.‏ وذكرَ القاضي عياضٌ‏:‏ أنَّ منهم مَنْ يقتصِرُ على مثالِ النَّبْرَةِ تحتَ الحرفِ المُهْمَلِ‏.‏

‏[‏ تبيين اختلافَ الرواياتِ إنِ اختلفَتْ‏]‏

569‏.‏ وَإِنْ أَتَى بِرَمْزِ رَاوٍ مَيَّزَا *** مُرَادَهُ وَاخْتِيْرَ أَنْ لاَ يَرْمِزَا

جرتْ عادةُ أهلِ الحديثِ إذا سمعوا الكتابَ من طرقٍ أنْ يُبيِّنوا اختلافَ الرواياتِ إنِ اختلفَتْ، على ما سيأتي بيانُهُ، وبيَّنوا عندَ لفظِ كلِّ روايةٍ منها اسمَ راويها إما باسْمِهِ كاملاً، وهو أَولى وأدفعُ للالتباسِ، وإما برمزٍ يدلُّ عليهِ كحرفٍ أو حرفينِ من اسْمِهِ كما فَعَلَ اليونينيُّ في نسختِهِ من صحيحِ البخاريِّ‏.‏ فإنْ بَيَّنَ مرادَهُ بتلكَ العلاماتِ في أوَّلِ كتابِهِ، أو آخرِهِ، كما فعلَ اليونينيُّ فلا بأسَ بهِ، وإلاَّ فهوَ مكروهٌ لما يوقعُ فيهِ غيرَهُ من الحَيْرةِ في فَهْمِ مرادِهِ‏.‏

570‏.‏ وَتَنْبَغِي الدَّارَةُ فَصْلاً وَارْتَضَى *** إِغْفَالَهَا ‏(‏الْخَطِيْبُ‏)‏ حَتَّى يُعْرَضَا

ينبغي أَنْ يجعلَ بينَ كلِّ حديثينِ دارةً ‏(‏صورةَ O‏)‏ تفصلُ بينَ الحديثينِ وتميِّزُ بَيْنَهُمَا، وقدْ روى ابنُ خَلاَّدٍ مِنْ روايةِ ابنِ أبي الزِّنَادِ أَنَّ كتابَ أبيهِ كانَ هكذا‏.‏ وَحُكِيَ ذلكَ أيضاً عن أحمدَ والحربيِّ، وابنِ جريرٍ‏.‏ واستحبَّ الخطيبُ أنْ تكونَ الدَّارَاتُ غُفْلاً، فإذا عارضَ فكلُّ حديثٍ يفرغُ من عَرْضِهِ يَنْقُطُ في الدَّارةِ التي تليهُ نُقْطَةً، أو يخطُّ في وَسَطِها خطاً‏.‏ قالَ‏:‏ وقد كانَ بعضُ أهلِ العلمِ لا يعتدُّ من سماعِهِ إلاَّ بما كانَ كذلكَ أو في معناهُ‏.‏

‏[‏الفصل في الخطِّ‏]‏

571‏.‏ وَكَرِهُوْا فَصْلَ مُضَافِ اسْمِ اللهْ *** مِنْهُ بِسَطْرٍ إِنْ يُنَافِ مَا تَلاَهْ

وُيكْرَهُ أن يَفْصِلَ في الخطِّ بينَ ما أُضيفَ إلى اسمِ اللهِ تعالى وبينَ اسمِ اللهِ في مثلِ عبدِ اللهِ بنِ فلانٍ وعبدِ الرحمنِ بنِ فلانٍ، وغيرِ ذلكَ من الأسماءِ فيكتبُ عبدَ في آخرِ سطرٍ ويكتُبُ في السطرِ الآخرِ اسمَ اللهِ، وبقيَّةَ النِّسبِ هكذا‏.‏ ذكرَ ابنُ الصلاحِ أنَّهُ مكروهٌ، وفي كلامِ الخطيبِ مَنْعُهُ، فإنَّهُ روى في ‏"‏ الجامعِ ‏"‏ عن أبي عبدِ اللهِ بنِ بَطَّةَ أنَّهُ قالَ‏:‏ هذا كلُّهُ غَلَطٌ قبيحٌ فيجبُ على الكاتبِ أَنْ يتوَقَاْهُ ويتأمَّلَهُ ويتحفَّظَ منهُ‏.‏قالَ الخطيبُ‏:‏ وهذا الذي ذكرَهُ أبو عبدِ اللهِ صحيحٌ فيجبُ اجتنابُهُ‏.‏ فعلى هذا تحملُ الكراهةُ في النَّظْمِ‏.‏ وفي كلامِ ابنِ الصلاحِ على التحريمِ، وجعلَهُ صاحبُ ‏"‏ الاقتراحِ ‏"‏ أيضاً من الأَدبِ، لا من بابِ الوُجوبِ‏.‏ قالَ الخطيبُ‏:‏ ومما أكرهُهُ أيضاً أَنْ يكتُبَ قالَ رسولُ في آخرِ السطرِ، ويكتُبَ في أولِ السطرِ الذي يليهِ‏:‏ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فينبغي التحفظُ من ذلكَ‏.‏ قلت‏:‏ ولا يختصُّ المنعُ أو الكراهةُ بأسماءِ اللهِ تعالى، بل الحكمُ كذلكَ في أسماءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والصحابةِ أيضاً، مثالُه لو قيلَ‏:‏ سابُّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كافرٌ، أو قاتِلُ ابنِ صَفيَّةَ في النارِ، يريدُ‏:‏ الزبيرَ بنَ العوامِ، ونحوَ ذلكَ، فلا يجوزُ أن يكتبَ «سابُّ» أو «قاتِلُ» في سطرٍ وما بعدَ ذلكَ في سطرٍ آخرَ، فينبغي أنْ يجتنبَ أيضاً ما يُسْتَبْشَعُ، ولو وقعَ ذلكَ في غيرِ المُضَافِ والمُضَافِ إليهِ، كقولهِ في حديثِ شاربِ الخمرِ، الذي أوتِيَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو ثملٌ، فقالَ عُمَرُ‏:‏ أخزاهُ اللهُ ما أكثرَ ما يْؤتَى بِهِ‏.‏ فلا ينبغي أنْ يكتُبَ‏:‏ فقالَ، في آخرِ سطرٍ، وعُمَرُ وما بَعْدَهُ في أَوَّلِ السطرِ الذي يليهِ‏.‏ أَمَّا إذا لم يكُنْ في شيءٍ منْ ذلكَ بعدَ اسمِ اللهِ تعالى، أو اسمِ نبيِّهِ، أو اسمِ الصحابيِّ ما ينافيهِ، بأَنْ يكونَ الاسمُ آخرَ الكتابِ، أو آخرَ الحديثِ، ونحوَ ذلكَ، أو يكونَ بَعْدَهُ شيءٌ ملائمٌ لهُ، غيرُ منافٍ لهِ، فلا بأْسَ بالفَصْلِ، نحوَ قولهِ في آخرِ البخاريِّ‏:‏ سبحانَ اللهِ العظيمِ، فإنَّهُ إذا فَصَلَ بينَ المضافِ، والمضافِ إليهِ، كانَ أوَّلُ السطرِ‏:‏ «اللهِ العظيمِ»، ولا منافاةَ في ذلكَ، ومَعَ هذا فجمْعُهُما في سطرٍ واحدٍ أوْلَى، واللهُ أعلمُ‏.‏

‏[‏المحافظة على كَتْبِ الثناءِ على اللهِ تعالى عندَ ذِكْرِ اسمِهِ والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم‏]‏

572‏.‏ وَاكْتُبْ ثَنَاءَ ‏(‏اللهِ‏)‏ وَالتَّسْلِيْمَا *** مَعَ الصَّلاَةِ للِنَّبِي تَعْظِيْمَا

573‏.‏ وَإِنْ يَكُنْ أُسْقِطَ فِي الأَصْلِ وَقَدْ *** خُوْلِفَ فِي سَقْطِ الصَّلاَةِ ‏(‏أَحْمَدْ‏)‏

574‏.‏ وَعَلَّهُ قَيَّدَ بِالرِّوَايَهْ *** مَعْ نُطْقِهِ، كَمَا رَوَوْا حِكَايَهْ

575‏.‏ وَالْعَنْبَرِيْ وَابْنُ الْمُدِيْنِيْ بَيَّضَا *** لَهَا لإِعْجَالٍ وَعَادَا عَوَّضَا

576‏.‏ وَاجْتَنِبِ الرَّمْزَ لَهَا وَالْحَذْفَا *** مِنْهَا صَلاَةً أَوْ سَلاَماً تُكْفَى

يَنْبَغِي أن يُحافظَ على كَتْبِ الثناءِ على اللهِ تعالى عندَ ذِكْرِ اسمِهِ، نحوِ‏:‏ عزَّ وجلَّ، وتباركَ وتعالى، ونحوِ ذلكَ‏.‏ وكذلكَ كتابةُ الصلاةِ والتسليمِ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، عند ذِكرِهِ‏.‏ ولا تسأَمْ مِنْ تكرُّرِ ذلكَ فأجْرُهُ عظيمٌ، وقدَ قيلَ في قولهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَوْلى الناسِ بي أكثُرُهُم عليَّ صلاةً‏.‏ أنَّهُمْ أهلُ الحديثِ، وذلكَ لكثرةِ ما يتكرَّرُ ذكرُهُ في الروايةِ فيصلُّونَ عليهِ، فإنْ كانَ الثناءُ والصلاةُ والتسليمُ ثابتاً في أصْلِ سماعِهِ، أوْ أَصْلِ الشيخِ فواضحٌ، وإنْ لم يكنْ في الأَصْلِ، فلا يتقيَّدُ بهِ أيضاً، بلْ يَتَلَفَّظُ بهِ ويكتُبُهُ؛ وذلكَ لأَنَّهُ ثناءٌ ودعاءٌ يُثْبِتُه لا كلامٌ يرويهِ، وأما ما وُجِدَ في خطِّ أَحمدَ بنِ حنبلٍ مِنْ إغفالِ الصلاةِ والتسليمِ، فقالَ الخطيبُ‏:‏ قَدْ خالفَهُ غيرُهُ من الأَئمة المتقدِّمِيْنَ‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ لعلَّ سبَبَهُ أنَّهُ كانَ يرى

التَقَيُّدَ في ذلكَ بالرِّوَايةِ، وعزَّ عليهِ اتصالهُا في جميعِ مَنْ فوقَهُ من الرواةِ‏.‏ قالَ الخطيبُ‏:‏ وبلغني أَنَّهُ كَانَ يُصَلي على النبيِّ صلى الله عليه وسلم نُطقاً لا خطَّاً‏.‏ وقدْ مالَ ابنُ دقيقِ العيدِ إلى ما فعلَهُ أحمدُ، فقالَ في ‏"‏ الاقتراحِ ‏"‏‏:‏ والذي نميلُ إليهِ أَنْ نَتَّبِعَ الأصولَ والرواياتِ‏.‏ وقالَ‏:‏ إذا ذكرَ الصلاَة لفظاً من غيرِ أَنْ يكونَ في الأصلِ فينبغي أنْ يُصحبَها قرينةٌ تدلُّ على ذلكَ من كونِهِ يرفعُ رأْسَهُ عن النَّظَرِ في الكتابِ، وينوي بقلبهِ أَنَّهُ هو المصلِّي لا حاكياً عن غيرِهِ‏.‏ وقالَ عبدُ الله بنُ سنانٍ‏:‏ سمعتُ عبَّاساً العَنْبَرِيَّ وعليَّ بنَ المدينيِّ يقولانِ‏:‏ ما تَرَكْنَا الصلاَة على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في كلِّ حديثٍ سمعناهُ، وربما عَجِلنا فَنُبَيِّضُ الكتابَ في كُلِّ حديثٍ، حتى نَرجِعَ إليهِ‏.‏ قالَ النوويُّ‏:‏ وكذا الترضِّي والترحُّمُ على الصحابةِ والعلماءِ وسائرِ الأخيارِ، ويُكْرَهُ أنْ يَرْمِزَ للصَّلاةِ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الخطِّ بأَنْ يقتصِرَ من ذلكَ على حرفينِ، ونحوِ ذلكَ، كمن يكتُبُ ‏(‏صلعم‏)‏ يشيرُ بذلكَ إلى الصلاةِ والتَّسْلِيمِ‏.‏ ويُكْرَهُ حذفُ واحدٍ منَ الصلاةِ والتَّسْلِيمِ‏.‏ والاقتصارُ على أحدهِما كما يفعلُ الخطيبُ، فإنَّ في خطِّهِ الاقتصارُ على الصلاةِ فقطْ‏.‏ شاهدتُهُ بخطِّهِ كذلكَ في كتابِ ‏"‏ الموضحِ ‏"‏، وليسَ بِمَرْضيٍّ، فقدْ قالَ حَمْزَةُ الكنانيُّ‏:‏ «كنتُ أكتبُ عندَ ذكرِ النبيِّ‏:‏ «صلى اللهُ عليهِ»، ولا أكتبُ «وَسَلَّمَ»، فرأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في المنامِ، فقالَ لي‏:‏ ما لكَ لا تُتِمُّ الصلاةَ عليَّ‏؟‏‏!‏ قالَ فما كتبتُ بعدَ ذلكَ‏:‏ «صَلَّى اللهُ عليهِ»، إلاَّ كتبتُ‏:‏ «وَسَلَّمَ»‏.‏

المُقَاْبَلَةُ

577‏.‏ ثُمَّ عَلَيْهِ الْعَرْضُ بِالأَصْلِ وَلَوْ *** إِجَازَةً أَوْ أَصْلِ أَصْلِ الشَّيْخِ أَوْ

578‏.‏ فَرْعٍ مُقَابَلٍ، وَخَيْرُ الْعَرْضِ مَعْ *** أُسْتَاذِهِ بِنَفْسِهِ إِذْ يَسْمَعْ

579‏.‏ وَقِيْلَ‏:‏ بَلْ مَعْ نَفْسِهِ وَاشْتَرَطَا *** بَعْضُهُمُ هَذَا، وَفِيْهِ غُلِّطَا

580‏.‏ وَلْيَنْظُرِ السَّامِعُ حِيْنَ يَطْلُبُ *** فِي نُسْخَةٍ وَقالَ ‏(‏يَحْيَى‏)‏‏:‏ يَجِبُ

على الطالبِ مقابلةُ كتابهِ بكتابِ شيخهِ الذي يرويهِ عنه؛ سماعاً، أو إجازةً، أو بأَصلِ أَصْلِ شيخِهِ المُقَاْبَلِ بهِ أصلُ شيخهِ، أو بِفَرْعٍ مقابَلٍ بأصْلِ السماعِ؛ المقابلةَ المشروطةَ‏.‏ وقالَ القاضي عياضٌ‏:‏ مقابلةُ النُّسْخةِ بأصلِ السَّماعِ متعيّنةٌ، لابدَّ منها، وقد قالَ عروةُ لابنِهِ هِشَامٍ‏:‏ عَرَضْتَ كتابَكَ‏؟‏ قالَ‏:‏ لا‏.‏ قالَ‏:‏ لم تكتُبْ‏؟‏ وقالَ الأوزاعيُّ، ويحيى بنُ أبي كثيرٍ‏:‏ مَثَلُ الذي يكتبُ ولا يعارِضُ مثلُ الذي يَدخلُ الخلاءَ ولا يَسْتَنْجِي‏.‏ وعنِ الأخفشِ، قالَ‏:‏ إذا نُسِخَ الكتابُ ولم يُعَارَضْ، ثُمَّ نُسِخَ ولم يُعَارَضْ، خَرَجَ أَعْجَمِيَّاً‏.‏

ثُمَّ أفضلُ المعارضةِ أنْ يُعارِضَ كتابَهُ بنفسِهِ مع شيخِهِ بكتابِهِ في حالِ تحديثِهِ بهِ‏.‏ وقالَ أبو الفضلِ الجاروديُّ‏:‏ أصدقُ المعارضةِ مع نفسِكَ‏.‏ والقولُ الأولُ أَوْلَى‏.‏ وقالَ بعضُهم‏:‏ لا تصحُّ مقابلتُهُ مع أحدٍ غيرِ نفسِهِ، ولا يُقلِّدُ غيرَهُ، حكاهُ القاضي عياضٌ عن بعضِ أهلِ التحقيقِ‏.‏ قالَ ابنُ الصَّلاحِ‏:‏ وهذا مذهبٌ متروكٌ‏.‏

اختلفوا في جوازِ روايةِ الراويِ من كتابه الذي لم يُعارَضْ، فقالَ القاضي عياضٌ‏:‏ لا يَحِلُّ للمسلمِ التقيِّ الروايةُ مما لم يُقابِلْ بأصلِ شيخِهِ، أو نسخةٍ تحقَّقَ ووَثِقَ بمقابلتِها بالأَصْلِ، وتكونُ مقابلتُه لذلك مَعَ الثقةِ المأمونِ على ما ينظرُ فيهِ‏.‏فإذا جاءَ حرفٌ مُشِكلٌ نظرَ معهَ حتى يحقِّقُوا ذلكَ‏.‏ وذهبَ الأستاذُ أبو إسحاق الإسفرايينيُّ إلى الجوازِ، وسُئِلَ أبو بكرٍ الإسماعيليُّ هل للرَجُلِ أَنْ يُحَدِّثَ بما كَتَبَ عن الشيخِ ولم يُعارِضْ بأَصْلِه‏؟‏ قالَ‏:‏ نَعَمْ‏.‏ ولكنْ لابُدَّ أنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ لَمْ يُعارِضْ‏.‏ وإليهِ ذهبَ أبو بكرٍ البرقانيُّ، وأجازَهُ الخطيبُ بشرطِ أَنْ تكونَ سختُهُ نُقِلَتْ من الأَصلِ، وأن يُبَيِّنَ عِنْدَ الروايةِ أَنَّهُ لَمْ يُعارضْ‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ ولابُدَّ مِنْ شرطٍ ثالثٍ، وهو أَنْ يكونَ ناسخُ النُّسْخَةِ من الأَصْلِ غيرَ سَقِيْمِ النقلِ، بل صحيحَ النقلِ، قليلَ السَّقَطِ، ثُمَّ إِنَّهُ ينبغي أَنْ يُرَاعيَ في كتابِ شيخِهِ بالنسبةِ إلى مَنْ فَوْقَهُ مثلَ ما ذكرنا أَنَّهُ يراعيهِ من كتابِهِ ولا يكونَنَّ كَمنْ إذا رأى سماعَ شيخٍ لكتابٍ قرأهُ عليهِ مِنْ أيِّ نسخةٍ اتفقتْ‏.‏ والتَّهَوُّرُ‏:‏ الوقوعُ في الشيءِ بقلَّةِ مبالاةٍ، قالَهُ الجوهريُّ‏.‏

ويُسْتَحَبُّ للطالبِ أنْ ينظرَ في نسختِهِ حالةَ السماعِ، ومَنْ ليسَ مَعَهُ نسخةٌ نظرَ في نسخةِ مَنْ معهُ نسخةٌ‏.‏ وسُئِلَ يحيى بنُ معينٍ عمَّنْ لم ينظرْ في الكتابِ والمحدِّثُ يقرأُ هلْ يجوزُ أنْ يُحدِّثَ بذلكَ عنهُ‏؟‏‏!‏ فقالَ‏:‏ أمَّا عندي فلا يجوزُ‏.‏ ولكنَّ عامةَ الشيوخِ هكذا سماعُهمْ‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ وهذا مِنْ مذاهبِ أهلِ التشديدِ في الروايةِ‏.‏ والصحيحُ أنَّ ذلكَ لا يُشتَرطُ، وأنَّهُ يصحُّ السَّماعُ وإنْ لم ينظرْ أصلاً في الكتابِ حالةَ القراءةِ وأَنَّهُ لا يُشْتَرطُ أنْ يُقَابِلَهُ بنفسهِ، بل يكفيهِ مقابلةُ نسختِهِ بأَصْلِ الراوي، وإنْ لم يكنْ ذلكَ حالةَ القراءةِ وإن كانتِ المقابَلَةُ على يَدَيْ غيرِهِ، إذا كانَ ثقةً موثوقاً بضبْطِهِ‏.‏

581‏.‏ وَجَوَّزَ الأُسْتَاذُ أَنْ يَرْوِيَ مِنْ *** غَيْرِ مُقَابَلٍ وَ ‏(‏لِلْخَطِيْبِ‏)‏ إِنْ

582‏.‏ بَيَّنَ وَالنَّسْخُ مِنَ اصْلٍ وَلْيُزَدْ *** صِحَّةُ نَقْلِ نَاسِخٍ فَالشَّيْخُ قَدْ

583‏.‏ شَرَطَهُ ثُمَّ اعْتَبِرْ مَا ذُكِرَا *** فِي أَصْلِ الاصْلِ لاَتَكُنْ مُهَوِّرَا

خْرِيْجُ السَّاْقِطِ

584‏.‏ وَيُكْتَبُ السَّاقِطُ‏:‏ وَهْوَ اللَّحَقُ *** حَاشِيَةً إلى الْيِمَيْنِ يُلْحَقُ

585‏.‏ مَا لَمْ يَكُنْ آخِرَ سَطْرٍ وَلْيَكُنْ *** لِفَوْقُ وَالسُّطُوْرُ أَعْلى فَحَسُنْ

586‏.‏ وَخَرِّجَنْ لِلسَّقْطِ مِنْ حَيْثُ سَقَطْ *** مُنْعَطِفَاً لَهُ، وَقِيْلَ‏:‏ صِلْ بِخَطْ

587‏.‏ وَبَعْدَهُ اكْتُبْ صَحَّ أَوْ زِدْ رَجَعَا *** أَوْ كَرِّرِ الكَلْمَةَ لَمْ تَسْقُطْ مَعَا

588‏.‏ وَفِيْهِ لَبْسٌ وَلِغَيْرِ الأَصْلِ *** خَرِّجْ بِوَسْطِ كِلْمَةِ الْمَحَلِّ

589‏.‏ وَ ‏(‏لِعِيَاضٍ‏)‏‏:‏ لاَ تُخَرِّجْ ضَبِّبِ *** أَوْ صَحِّحَنْ لِخَوْفِ لَبْسٍ وَأُبِي

أهلُ الحديثِ والكُتَّاْبةُ يُسَمُّوَن ما سَقَطَ مِن أَصْلِ الكتابِ فأُلْحِقَ بالحاشيةِ أو بينَ السطورِ‏:‏ اللَّحَقُ-بفتحِ اللامِ والحاءِ المهملة معاً-‏.‏ وأَمَّا اشتقاقهُ فيحتملُ أَنَّهُ من الإلْحَاقِ‏.‏ قالَ الجوهريُّ‏:‏ واللَّحَقُ- بالتحريكِ- شيءٌ يَلْحَقُ بالأوَّل‏.‏ قالَ‏:‏ واللَّحَقُ أيضاً من التَّمرِ‏:‏ الذي يأتي بعدَ الأولِ‏.‏ وقالَ صاحبُ ‏"‏ المُحكمِ ‏"‏‏:‏ اللَّحَقُ كلُّ شيءٍ لَحِقَ شيئاً أو أُلْحِقَ بِهِ، من الحَيَوَانِ، والنَّبَاتِ، وحَمْلِ النخلِ، وأنشدَ‏:‏

وَلَحَقٍ يَلْحَقُ مِنْ أَعْرَابِهَا

ويحتملُ أنَّهُ مِنَ الزيادةِ يدلُّ عليهِ كلامُ صاحبِ ‏"‏ المحكمِ ‏"‏ فإنَّهُ قالَ‏:‏ واللَّحَقُ‏:‏ الشيءُ الزائدُ‏.‏ قالَ ابنُ عيينةَ‏:‏

كأَنَّهُ بينَ أسْطُرٍ لَحَقُ

وقد وقعَ في شِعْرٍ نُسِبَ لأَحمدَ بنِ حنبلٍ- بإسكانِ الحاءِ-، أنشدَهُ الشريفُ أبو عليٍّ محمدُ بنُ أحمدَ بنِ أبي موسى الهاشميُّ، لأَحمدَ بنِ حنبلٍ‏.‏

مَنْ طَلَبَ العِلْمَ والحدِيْثَ فلا *** يَضْجَرُ مِنْ خَمْسَةٍ يُقَاسِيْهَا

دَرَاهِمٍ لِلْعُلُومِ يَجْمَعُهَا *** وعِنْدَ نَشْرِ الحدِيْثِ يُفْنِيْهَا

يُضْجِرُهُ الضَّرْبُ في دَفَاتِرِهِ *** وكَثْرَةُ اللَّحْقِ في حَوَاشِيهَا

يَغْسِلُ أَثْوابَهُ وَبِزَّتَهُ *** مِنْ أَثرِ الحِبْرِ لَيْسَ يُنقِيْهَا

وكأَنَّهُ خَفَّفَ حركةَ الحاءِ؛ لضرورةِ الشِّعْرِ‏.‏ وأمَّا كيفيةُ كتابةِ ما سَقَطَ من الكتابِ فلا ينبغي أنْ يُكتَبَ بينَ السُّطورِ؛ لأَنَّهُ يُضَيِّقُها وُيغلِّسُ ما يُقْرَأُ خصوصاً إِنْ كانتِ السطورُ ضيقةً متلاصقةً‏.‏ والأَوْلى أَنْ يُكْتَبَ في الحاشيةِ‏.‏

ثُمَّ السَّاقطُ لا يخلوا إمَّا أَنْ يكونَ سَقَطَ مِنْ وَسَطِ السَّطْرِ، أو مِنْ آخرِهِ، فإنْ كانَ مِنْ وَسَطِ السَّطْرِ فَيُخَرَّجُلهُ إلى جهةِ اليمينِ،- وسيأتي صفةُ التَّخْرِيجِ لهُ-؛ لاحتمالِ أنْ يَطْرَأَ في بقيَّةِ السَّطْرِ سَقطٌ آخرُ، فَيُخَرَّجُ له إلى جهةِ اليسارِ‏.‏فلو خَرَّجَ للأَولِ إلى اليسارِ ثُمَّ ظهرَ في السطرِ سقطٌ آخرُ، فإنْ خَرَّجَ لهُ إلى اليسارِ أيضاً اشتبهَ موضعُ هذا السقطِ بموضعِ هذا السقطِ، وإنْ خرَّجَ للثاني إلى اليمينِ تقابلَ طرفا التخريجتينِ، وربما التقيا؛ لِقُرْبِ السَّاقطينِ، فَيُظَنُّ أَنَّ ذلكَ ضَرْبٌ- عَلَى ما بينهَما عَلَى ما سيأتي في صفةِ الضَّرْبِ-‏.‏ وإنْ كانَ الَّذِي سَقَطَ محلُّهُ بعدَ تمامِ السَّطْرِ، فقالَ الْقَاضِي عياضٌ‏:‏ لا وَجْهَ إلاَّ أَن يُخَرِّجَهُ إِلَى جهةِ الشِّمَالِ؛ لقُرْبِ التخريجِ من اللَّحَقِ، وسرعةِ لحاقِ الناظرِ بهِ؛ ولأَنَّه أمِنَ مِنْ نقصٍ يَحْدُثُ بَعدَهُ، فلا وَجْهَ لتخريجهِ إلى اليمينِ‏.‏ وتبعهُ ابنُ الصلاحِ على ذلكَ‏.‏ نَعَمْ‏.‏‏.‏، إنْ ضَاقَ ما بَعْدَ آخرِ السطرِ لقُرْبِ الكتابةِ من طرفِ الورقِ أو لضيقِهِ بالتجليدِ بأنْ‏:‏ يكونَ السَّقطُ في الصفحةِ اليُمْنَى فلا بأسَ حينئذٍ بالتخريجِ إلى جهةِ اليمينِ‏.‏ وقد رأيتُ ذلكَ في خطِّ غيرِ واحدٍ من أهلِ العلمِ‏.‏ ثُمَّ الأَوْلَى أن يكتُبَ الساقطَ صاعداً لفوقُ، إلى أعلى الورقةِ من أيِّ جهةٍ كانَ تخريجُ الساقطِ‏:‏ اليمينَ أو الشِّمالَ؛ لاحتمالِ حُدوثِ سقطٍ آخرَ فيكتُبَ إِلَى أسفلَ‏.‏ فلو كُتِبَ الأولُ إِلَى أسفلَ لَمْ يجدْ للسقطِ الثاني موضعاً يقابِلُهُ بالحاشيةِ خالياً‏.‏ وهذا معنى قولي‏:‏ ‏(‏وليكُنْ لفوقُ‏)‏، والأَوْلَى أنْ يبتديءَ السُّطورَ منْ أعلى إِلَى أسفلَ‏.‏فإنْكانَ التخريجُ في جهةِ اليَمينِ انقضتِ الكتابةُ إِلَى جهةِ باطنِ الورقةِ‏.‏ وإنْ كانَ في جهةِ الشِّمالِ انتهتِ الكتابةُ إِلَى طرفِ الورقةِ؛ وذلك لأَنَّ الساقطَ ربما زادَ على السطرِ و السطرينِ أو أكثرَ‏.‏ فلو كُتِبَ السَّاقِطُ مِنْ أسفلَ لربمُّا فرغَ السَّطرُ، ولم يُتِمَّ السَّاقِطَ، فلا يجدُ لَهُ مَوْضِعَاً يُكْمِلُه، إلا بانتقالٍ إلى موضعٍ آخرَ بتخريجٍ أو اتِّصَالٍ‏.‏ وهذا فيما إذا كتبَ السَّاقطَ لفوقُ‏.‏وإنْ كانتِ الكتابةُ إلى أسفلَ بأَنْ يكونَ ذلك في السَّقطِ الثاني، أو خالفَ أوَّلاً وخرجَ إلى أسفلَ فينعكِسُ الحالُ فيكونُ انتهاءُ الكتابةِ في الجانبِ اليمينِ إلى طرفِ الورقةِ، وفي الجانبِ اليسارِ إلى باطنِ الورَقةِ‏.‏ وهذا معنى قولي‏:‏ ‏(‏والسُّطُوْر أَعْلَى‏)‏ أي‏:‏ ولتكُنِ السطورُ أعلى‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏فَحَسُن‏)‏، هو فعلٌ ماضٍ- بضمِّ السينِ-، أي‏:‏ فَحسُنَ هذا الفعلُ ممَّنْ يفعَلُهُ‏.‏ وأما صفةُ التخريجِ للساقطِ فقالَ القاضي عياضٌ‏:‏ أحسنُ وجوهِها‏:‏ ما استمرَّ عليهِ العملُ عندَنا من كتابةِ خطٍّ بموضعِ النَّقْصِ صاعداً إلى تحتِ السطرِ الذي فوقَهُ، ثُمَّ ينعطِفُ إلى جهةِ التخريجِ في الحاشيةِ انعطافاً يُشِيْرُ إليه‏.‏ وقالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ إنَّ المخْتَارَ هذهِ الكيفيةُ‏.‏ وقالَ ابنُ خَلاَّدٍ‏:‏ أجودُهُ أَنْ يُخَرَّجَ من مَوْضِعِهِ حتى يُلْحِقَ بهِ طرفُ الحرفِ المبتدإِ به مِنَ الكلمةِ الساقِطةِ في الحاشيةِ‏.‏ وهذا معنى قولي‏:‏ وقيلَ‏:‏ ‏(‏صِلْ بخطٍّ‏)‏‏.‏ قالَ القاضي عياضٌ‏:‏ وهذا فيهِ بيانٌ لكنَّهُ تَسْخِيْمٌ للكتابِ، وتَسْوِيْدٌ لهُ، لا سِيَّما إنْ كَثُرَتِ الإلحاقاتُ والنَّقْصُ‏.‏ وقالَ ابنُ الصلاحِ أيضاً‏:‏ هذا غيرُ مَرْضِيٍّ‏.‏ قلتُ‏:‏ فإنْ لم يكنِ اللَّحَقُ قُبَالةَ موضعِ السُّقوطِ بأنْ لا يكونَ ما يقابِلُهُ خالياً، وكُتِبَ اللَّحَقُ في موضعٍ آخرَ فيَتَعَيَّنُ حينئذٍ جرُّ الخطِّ إلى أوَّلِ اللَّحَقِ، أو يَكتبُ قُبَالَةَ موضعِ السقوطِ يتلُوهُ كذا وكذا في الموضعِ الفلانيِّ ونحوِ ذلكَ لزوالِ اللَّبْسِ وقد رأيتُ في خطِّ غيرِ واحدٍ ممَّنْ يَعْتَمِدُ اتِّصَالَ الخطِّ إذا بَعُدَ اللَّحَقُ عن مُقابلِ موضعِ النَّقْصِ، وهو جيدٌ حَسَنٌ، ثُمَّ إذا انتهتْ كتابةُ السَّاقطِ كَتَبَ بعدَهُ‏:‏ صَحّ‏.‏ قالَ القاضي عياضٌ‏:‏ وبعضُهم يكتبُ آخرَهُ بَعْدَ التصحيحِ‏:‏ رَجَعَ‏.‏ وقالَ ابنُ خَلاَّدٍ‏:‏ إِنَّ الأجودَ أن يُكتَبَ في الطرفِ الثاني حرفٌ واحدٌ مِمَّا يتصلُ بهِ الدَّفترُ ليدُلَّ أَنَّ الكلامَ قَدْ انتظمَ‏.‏ وهذا معنى قولي‏:‏ ‏(‏أوْ كَرِّرِ الكلمةَ لَمْ تسقطْ‏)‏ أي‏:‏ التي لم تسقطْ في الأصلِ، بل سَقَطَ ما قبلَها‏.‏ وهذا ما حكاهُ القاضي عياضٌ عن اختيارِ بعضِ أهلِ الصَّنْعةِ من أهلِ المغربِ أيضاً، قالَ‏:‏ وليسَ عندي باختيارٍ حَسَنٍ فرُبَّ كلمةٍ قد تجيءُ في الكلامِ مكرَّرَةً مرتينِ وثلاثاً لمعنى صحيحٍ، فإذا كرَّرْنا الحرفَ لم نَأْمَنْ أنْ يوافقَ ما يتكرَّرُ حقيقةً أو يُشْكِلَ أمرُهُ، فيوجبُ ارتياباً وزيادةَ إشكالٍ‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ وليسَ ذلكَ بمرْضِيٍّ‏.‏ قالَ القاضي عياضٌ‏:‏ وبعضُهم يكتُبُ‏:‏ انتهى اللَّحَقُ‏.‏ قالَ‏:‏ والصَّوابُ التصحيحُ‏.‏ وهذا كلُّهُ في التخريجِ للسَّاقطِ، أَمَّا ما يُكتبُ في حاشيةِ الكتابِ منْ غيرِ الأَصلِ من شرحٍ أو تنبيهٍ على غَلَطٍ، أو اختلافِ روايةٍ أو نسخةٍ أو نحوِ ذلكَ؛ فالأَوْلَى أَنْ يُخَرَّجَ له على نفسِ الكلمةِ التي من أجلِهَا كتُبتِ الحاشيةُ، لا بين الكلمتينِ‏.‏ وقالَ القاضي عياضٌ‏:‏ لا يُحَبُّ أن يُخَرَّجَ إليهِ، فإنَّ ذلكَ يُدْخِلُ اللَّبْسَ ويُحْسَبُ من الأَصلِ‏.‏ قالَ ولا يُخرَّجُ إلاَّ لما هوَ من نفسِ الأَصلِ، لكن رُبمَّا جُعلَ على الحرَفِ كالضَّبَّةِ، أو التصحيحِ، ليدُلَّ عليهِ‏.‏ وسيأتي بيانُ التضبيبِ والتصحيحِ بعدَهُ‏.‏ وقالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ التخريجُ أَوْلَى، وأَدلُّ من وَسَطِ الكلمةِ، كما تقدَّمَ‏.‏

التَّصْحِيْحُ، وَالتَّمْرِيْضُ، وهُو التَّضْبِيْبُ

590‏.‏ وَكَتَبُوْا ‏(‏صَحَّ‏)‏ عَلى الْمُعَرَّضِ *** لِلشَّكِّ إِنْ نَقْلاً وَمَعْنًى ارْتُضِي

591‏.‏ وَمَرَّضُوْا فَضَبَّبُوْا ‏(‏صَاداً‏)‏ تُمَدّْ *** فَوْقَ الذَّيِ صَحَّ وُرُوْداً وَفَسَدْ

592‏.‏ وَضَبَّبُوْا فِي الْقَطْعِ وَالإِرْسَالِ *** وَبَعْضُهُمْ فِي الأَعْصُرِ الْخَوَالي

593‏.‏ يَكْتُبُ صَادَاً عِنْدَ عَطْفِ الأَسْمَا *** تُوْهِمُ تَضْبِيْباً، كَذَاكَ إِذ مَا

594‏.‏ يَخْتَصِرُ التَّصْحِيْحَ بَعْضٌ يُوْهِمُ *** وَإِنَّمَا يَمِيْزُهُ مَنْ يَفْهَمُ

التصحيحُ هو كتابةُ‏:‏ «صَحّ»، على الحرفِ الذي يُشارُ إلى صحتِهِ‏.‏ والتمريضُ، والتضبيبُ‏:‏ هو كتابةُ صورةِ «صـ» هكذا فوقَ الحرفِ الَّذِي يُشارُ إِلَى تمريضِهِ‏.‏ ووجدتُ عن أبي القاسمِ بنِ الإفليلي، واسمُهُ إبراهيمُ بنُ محمدِ بنِ زكريا، قالَ‏:‏ كَانَ شيوخُنَا من أهلِ الأَدَب- وفي الإلماع للقاضي عِيَاض‏:‏ شيوخُنا من أهلِ المغربِ- يَتَعَالَمُوْنَ أَنَّ الحرفَ إذا كُتبَ عليهِ «صَحّ»، أَنَّ ذلكَ علامةٌ لصحةِ الحرفِ فَوُضِعَ حرفٌ كاملٌ عَلَى حرفٍ صَحَّيحٍ، وإذا كانَ عليهِ صادٌ ممدودةٌ دون حاءٍ كانَ علامةً أَنَّ الحرفَ سقيمٌ، إذ وُضِعَ عليه حرفٌ غيرُ تامٍّ، ليدلَّ نَقْصُ الحرفِ على اختلالِ الحرفِ قالَ‏:‏ ويُسمَّى ذلكَ الحرفُ أيضاً‏:‏ ضَبَّةً، أي‏:‏ أَنَّ الحرفَ مقفلٌ بها، لا يتَّجِهُ لقراءةٍ كما أَنَّ الضَّبَّةَ مقفلٌ بها‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ ولأنَّها أشبهتِ الضَّبَّةَ التي تُجعَلُ على كَسْرٍ أو خَلَلٍ فاستعيرَ لها اسمُها‏.‏

قلتُ‏:‏ هذا بعيدٌ؛ لأَنَّ ضَبَّةَ القَدَحِ جُعِلَتْ للجبرِ، وهذهِ ليستْ جابرةً، وإنَّمَا هيَ علامةٌ لكونِ الروايةِ هكذا، وَلَمْ يتَّجِهْ وجْهُهَا، فهي علامةٌ لصحةِ ورودِها، لئلاَّ يظنَّ الرَّاوِي أَنَّها من غَلَطٍ فيُصْلِحَهَا، وَقَدْ يأتي بعدَ ذلكَ مَنْ يُظْهِرُ لهُ وجهَ ذلكَ‏.‏ وَقَدْ غيَّرَ بعضُ المتجاسرينَ ما الصوابُ إبقاؤُهُ‏.‏ وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ما ذكرتُهُ الْقَاضِي عياضٌ، وتبعهُ عليه ابنُ الصلاحِ أيضاً، واللهُ أعلمُ‏.‏

ولا يُصَحِّحُ إلاَّ على ما هو عُرْضَةٌ للشكِّ، أو الخلافِ، وقد صَحَّ روايةً ومعنًى؛ ليُعْلَمَ أَنَّهُ لم يَغْفَلْ عنهُ، وأنَّهُ قد ضُبِطَ، وصحَّ على الوجهِ‏.‏ وأَمَّا ما صحَّ من طريقِ الروايةِ، وهو فاسدٌ من جهةِ المعنى، أو اللَّفظِ، أو الخطِّ، بأن يكونَ غيرَ جائزٍ في العربيةِ، أو شَاذَّاً، أو مُصَحَّفَاً، أو نَاقِصَاً، وما أشبهَ ذلكَ؛ فجرتْ عادةُ أهلِ التقييدِ، كما قالَ القاضي عياضٌ أنْ يَمدُّوا على أَوَّلِهِ مثلَ الصادِ، ولا يُلزقُ بالكلمةِ المُعَلَّمِ عليها، لِئَلاَّ يُظَنَّ ضَرْبَاً‏.‏ قالَ‏:‏ ويسمُّونهُ ضَبَّةً، ويسمُّونَهُ تَمْرِيْضَاً‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ ومن مواضعِ التَّضْبِيْبِ، أَنْ يقعَ في الإسنادِ إرسالٌ، أو انقطاعٌ، فمِنْ عَادَتِهِم تَضْبِيْبُ موضعِ الإرسالِ، والانقطاعِ‏.‏ قالَ‏:‏ ويُوجدُ في بعضِ الأُصولِ القديمةِ في الإسنادِ الذي يجتمعُ فيهِ جماعةٌ معطوفةٌ أسماؤُهُم بعضُها على بعضٍ، علامةٌ تُشْبِهُ الضَّبَّةَ فيما بينَ أسمائهِمِ، فَتُوْهِمُ مَنْ لا خبرةَ لهُ أَنَّهَا ضَبَّةٌّ، وليستْ بضَبَّةٍ، وكأنَّهَا علامةُ وصلٍ فيما بينهما، أُثْبِتَتْ تأكيداً للعطفِ، خوفاً من أَنْ تُجعلَ «عن» مكانَ الواوِ، والعلمُ عندَ اللهِ تعالى‏.‏ قالَ‏:‏ ثُمَّ إنَّ بعضَهم ربما اختصرَ علامةَ التصحيحِ، فجاءتْ صورتُها تُشْبِهُ صورةَ التضبيبِ، والفِطْنةُ من خيرِ ما أُوْتِيَهُ الإنسانُ‏.‏

الْكَشْطُ، وَالْمَحْوُ، وَالضَّرْبُ

595‏.‏ وَمَاَ يزِيْدُ فِي الْكِتَابِ يُبْعَدُ *** كَشْطاً َوَمَحْواً وَبِضَرْبٍ أَجْوَدُ

596‏.‏ وَصِلْهُ بِالْحُرُوْفِ خَطّاً أَوْ لاَ *** مَعْ عَطْفِهِ أَوْ كَتْبَ ‏(‏لاَ‏)‏ ثُمَّ إلى

597‏.‏ أَوْ نِصْفَ دَارَةٍ وَإِلاَّ صِفْرَا *** فِي كُلِّ جَانِبٍ وَعَلِّمْ سَطْرَا

598‏.‏ سَطْرَاً إذا مَا كَثُرَتْ سُطُوْرُهْ *** أَوْلا وَإِنْ حَرْفٌ أتَى تَكْرِيْرَهْ

599‏.‏ فَأَبْقِ مَا أَوَّلُ سَطْرٍ ثُمَّ مَا *** اخِرُ سَطْرٍ ثُمَّ مَا تَقَدَّمَا

600‏.‏ أَوِ اسْتَجِدْ قَوْلاَنِ مَا لَمْ يُضِفِ *** أَوْ يُوْصَفُ اوْ نَحْوُهُمَا فَأَلِفِ

لَمَّا تقدَّمَ إلحاقُ الساقطِ، ناسبَ تعقيبَهُ بإبطالِ الزائدِ‏.‏ فإذا وقعَ في الكتابِ شيءٌ زائدٌ لَيْسَ مِنْهُ، فإنَّهُ يُنفى عنهُ إِمَّا بالكشطِ، وَهُوَ الحكُّ‏.‏ وإمَّا بالمحْوِ، بأَنْ تكونَ الكتابةُ في لوحٍ أو رَقٍ، أو وَرَقٍ صقيلٍ جِدَّاً في حالِ طَرَاْوَةِ المكتوبِ‏.‏ وَقَدْ رُوِيَ عن سُحْنُوْنَ أَنَّهُ كانَ رُبَّمَا كَتَبَ الشيءَ ثُمَّ لعقهُ‏.‏ وإمَّا بالضَّرْبِ عليهِ‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ والضَّرْبُ خيرٌ من الحكِّ والمحْوِ‏.‏ وروينا عن أبي محمدِ بنِ خَلاَّدٍ الرامَهُرْمُزِيِّ قالَ‏:‏ قالَ أصحابُنا‏:‏ الحكُّ تهمةٌ، قالَ‏:‏ وأجودُ الضربِ أنْ لا يَطمسَ الحرفَ المضروبَ عليهِ، بل يخطُّ من فوقِهِ خطَّاً جيِّداً بَيِّنَاً يدلُ على إبطالِهِ، وَيُقرأُ من تحتِهِ ما خطَّ عليهِ‏.‏ وقد أُنبئْتُ عَمَّن أُنْبِئَ عن القاضي عياضٍ‏:‏ قالَ سمعتُ أبا بحرٍ سفيانَ بنَ العاص الأسديَّ، يحكي عن بعضِ شيوخِهِ أنَّهُ كانَ يقولُ‏:‏ كانَ الشيوخُ يكرهونَ حضورَ السِّكِّيْنِ مجلسَ السماعِ، حتَّى لا يُبْشَرَشيءٌ؛ لأَنَّ ما يُبْشَرُ منهُ، رُبَّما يصحُّ في روايةٍ أخرى، وقد يُسْمَعُ الكتابُ مرةً أخرى على شيخٍ آخرَ يكونُ ما بُشِرَ من روايةِ هذا صحيحاً في روايةِ الآخرِ، فيحتاجُ إلى إلحاقِهِ بعدَ أَنْ بُشِرَ، وهو إذا خُطَّ عليهِ، وأوقفَهُ من روايةِ الأَوَّلِ، وصحَّ عندَ الآخرِ، اكْتُفِيَ بعلامةِ الآخرِ عليهِ بصحَّتِهِ‏.‏ انتهى‏.‏

وقد اخْتُلِفَ في كيفيةِ الضَّرْبِ على خمسةِ أقوالٍ‏:‏

الأوَّلُ‏:‏ ما تقدَّمَ نقلُهُ عن الرامَهُرْمُزِيِّ، وحكاهُ القاضي عياضٌ عن الأكثرينَ‏.‏قالَ‏:‏ لكنْ يكونُ الخطُّ مُخْتَلِطَاًبالكلماتِ المضروبِ عليها، وهو الذي يُسمَّى‏:‏ الضَّرْبَ والشَّقَّ‏.‏

والقولُ الثاني‏:‏ أنْ لا يُخْلَطَ الضربُ بأوائلِ الكلماتِ، بل يكونُ فوقَها مُنْفَصلاً عنها، لكنَّهُ يَعْطِفُ طرفي الخطِّ، على أوائلِ المبطِلِ وآخرِهِ‏.‏ حكاهُ القاضي عياضٌ عن بعضِهِم‏.‏ وإليهِ الإشارةُ بقولي‏:‏ ‏(‏أوْ لاْ مَعَ عطفِهِ‏)‏ أي‏:‏ أو لا تصلِهُ بالحروفِ، بلِ اعطفْهُ عليها من الطرفينِ‏.‏

مثالُ الضربِ في هذا القولِ هكذا‏.‏

والقولُ الثالثُ‏:‏ أنْ يكتبَ في أوَّلِ الزائدِ لا، وفي آخرِهِ إلى‏.‏ قالَ القاضي عياضٌ‏:‏ ومثلُ هذا يصلُحُ فيما صحَّ في بعضِ الرواياتِوسقطَ منبعضٍ من حديثٍ أو كلامٍ‏.‏قالَ‏:‏ وقد يُكتَفىفي مثلِ هذا بعلامةِ من ثَبَتَتْ له فَقَطْ، أو بإثباتِ لا وإلى فقطْ‏.‏ وإلى هذا القولِالإشارةُ بقولي‏:‏ ‏(‏أَو كَتْبَ لا ثُمَّ إلى‏)‏، وهو مصدرٌ وآخرُهُ منصوبٌ على نزعِ الخافِضِ، أي‏:‏ يُبْعَدُ الزائدُ بالكشطِ، أو المحوِ، أو الضربِ، أو يكتبُ كذا‏:‏ ‏(‏لا_______________ إلى‏)‏، ‏(‏مثالُ الإبطالِ في هذا القولِ هكذا‏)‏‏.‏

والقولُ الرابعُ‏:‏ أنْ يُحَوِّقَ في أوَّلِ الكلامِ الزائدِ بنِصْفِ دارةٍ، وعلى آخرِهِ بنِصْفِ دارةٍ‏.‏ وإليهِ الإشارةُ بقولي‏:‏ ‏(‏أو نِصْفَ دَارَةٍ‏)‏ أي‏:‏ أوَّلَهُ وآخِرَهُ والفاءُ منهُ منصوبةٌ عطفاً على محلِّ المضافِ إليهِ، ‏(‏مثالُ ذلكَ على هذا القولِ‏)‏‏.‏

والقولُ الخامسُ‏:‏ أنْ يكتبَ في أوَّلِ الزيادةِ دائرةً صغيرةً، وكذلكَ في آخرِها دائرةً صغيرةً، حكاهُ القاضي عياضٌ عن بعضِ الأَشياخِ المحسنينَ لكتبُهِم، قالَ‏:‏ ويسمِّيها صِفْرَاً، كما يُسَمِّهَا أهلُ الحسابِ، ومعناها خُلُوُّ موضعِها من عددٍ، كذلكَ هنا تُشْعِرُ بخلوِ ما بينهما عن صحةٍ‏.‏ وإليهِ الإشارةُ بقولي‏:‏ ‏(‏وإلاَّ صِفْرَاً‏)‏ o مثالُ ذلكَ o‏.‏ وقولي‏:‏ ‏(‏وعَلِّمْ سَطْرَاً سَطْرَاً …‏)‏ إلى آخرِهِ، هو مبنيٌّ على الأقوالِ الأخيرةِ أنَّهُ يُعَلَّمُ أَوَّلُ الزائدِ، وآخرُهُ من غيرِ ضَرْبٍ، فإذا كَثُرَتْ سُطورُ الزائدِ فاجعلْ علامةَ الإبطالِ في أَوَّلِ كُلِّ سَطرٍ وآخرِهِ للبيانِ إنْ شئتَ، أو لا تكرِّرِ العلامةَ، بلِ اكتفِ بها في أوَّلِ الزائدِ وآخرِهِ، وإن كَثرتِ السطورُ‏.‏ حكاهُ القاضي عياضٌ عن بعضِهِم، أَنَّهُ رَبمَّا اكتفى بالتَّحْوِيقِ على أوَّلِ الكلامِ وآخرِهِ، وربَّمَا كُتِبَ عليهِ ‏(‏لا‏)‏ في أوِّلِهِ، و ‏(‏إلى‏)‏ في آخرِهِ، وإليهِ الإشارةُ بقولي‏:‏ ‏(‏أوْ لا‏)‏‏.‏

وهذا كلُّهُ فيما إذا كانَ الزائدُ غيرَ مُكرَّرٍ، فإنْ كانَ حرفاً تكرَّرَتْ كتابتُهُ فالذي رآهُ القاضي عياضٌ‏:‏ أَنَّهُ إنْ كانَ تكرارُهُ في أَوَّلِ سَطرٍ أَن يضربَ على الثاني لِئَلاَّ يَطْمِسَ أوَّلَ السَّطرِ‏.‏وإنْ كانتْ إِحدى الكلمتينِ في آخرِ سطرٍ، والأُخرى في أوَّلِ الذي يليهِ فيضْربَ على الأُوْلَى‏.‏وإِنْ كانتِ الكلمتانَ مَعَاً في آخرِ السطرِ فيضْربَعلى الأُوْلَى، صَوْناً لأَوائلِ السَّطورِ وأواخرِها، ومراعاةُ أوَّلِ السَّطرِ أَولى‏.‏ وإِنْ كانَ التَّكرَارُ لهما في وَسَطِ السَّطرِ ففيهِ قولانِ حكاهما ابنُ خلاَّدٍ وغيْرُهُ في أصلِ المسألةِ من غيرِ مراعاةٍ لأَوائلِ السُّطورِ وأوَاخِرها‏:‏

أحدُهما‏:‏ أَنَّ أَوْلاهُمَا بالإبطالِ الثاني؛ لأَنَّ الأَوَّلَ كُتِبَ عَلَى صوابٍ، فالخطأُ أَوْلَى بالإبطالِ‏.‏ والقولُ الثاني‏:‏ أولاهمُا بالإبقاءِ أَجودُهما صورةً وأَدَلُّهُما عَلَى قراءتِهِ‏.‏ وهذا معنى قولي‏:‏ ‏(‏أو اسْتَجِدْ‏)‏ أي‏:‏ اسْتَجِدْ للإبقاءِ أجودُهما‏.‏ وَقَدْ أطلقَ ابنُ خلاَّدٍ الخلافَ من غيرِ مراعاةٍ لأوائلِ السطورِ وأواخرِها، ومن غيرِ مراعاةٍ للفصلِ بَيْنَ المضافِ والمضافِ إليهِ ونحوِ ذلكَ‏.‏قالَ الْقَاضِي عياضٌ‏:‏ وهذا عندي إذا تساوتِ الكلماتُ في المنازلِ، فأَمَّا إنْ كانَ مثلَ المضافِ والمضافِ إليهِ، فتكرَّرَ أحدُهما فينبغي أَنْ لا يُفصلَ في الخطِّ، ويَضربَ بعدُ عَلَى المتكرِّرِ من ذلكَ كانَ أَوَّلاً، أوْ آخِرَاً، وكذلكَ الصفةُ معَ الموصوفِ وشِبْهُ هَذَا، فمُراعاةُ هَذَا مضطرٌ إليهِ للفَهْمِ، فمراعاةُ المعاني أَوْلَى من مراعاةِ تحسينِ الصورةِ في الخطِّ‏.‏ واستحسنَ ابنُ الصلاحِ من الْقَاضِي عياضٍ هَذَا التفصيلَ كُلَّهُ‏.‏

الْعَمْلُ فِي اخْتِلاْفِ الرُّوَاْيَاْتِ

601‏.‏ وَلْيَبْنِ أَوَّلاً عَلَى رِوَايَهْ *** كِتَابَهُ، وَيُحْسِنِ الْعِنَايَهْ

602‏.‏ بِغَيْرِهَا بِكَتْبِ رَاوٍ سُمِّيَا *** أَوْ رَمْزَاً اوْ يَكْتُبُهَا مُعْتَنِيَا

603‏.‏ بِحُمْرَةٍ، وَحَيْثُ زَادَ الأَصْلُ *** حَوَّقَهُ بِحُمْرَةٍ وَيَجْلُو

إذا كانَ الكتابُ مروياً بروايتينِ، أو أكثرَ ويقعُ الاختلافُ في بعضِهِا، فينبغي لمنْ أرادَ أَنْ يجمعَ بينَ روايتينِ فأَكثرَ في نسخةٍ واحدةٍ أنْ يَبْني الكتابَ أوَّلاً على روايةٍ واحدةٍ، ثُمَّ ما كانَ من روايةٍ أُخرى أَلحْقَهَا في الحاشيةِ أو غيرِها مع كتابةِ اسمِ راوِيْها مَعَهَا، أو الإشارةِ إليهِ بالرمزِ إِنْ كانتْ زيادةً‏.‏ وإنْ كانَ الاختلافُ بالنَّقْصِ أَعْلَمَ على الزائدِ أنَّهُ ليسَ في روايةِ فلانٍ باسمِهِ، أو الرمزِ إليهِ‏.‏ وإنْ شاءَ كتبَ زيادةَ الروايةِ الأخرى بِحُمْرَةٍ، وما نَقَصَ منها حَوَّقَ عليهِ بالحُمْرةِ، فقد حكاهُ القاضي عياضٌ عَنْ كثيرِ من الأَشياخِ، وأهلِ الضَّبْطِ كأبي ذَرٍّ الهرويِّ وأبي الحسنِ القابسيِّ وغيرِهِما‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏ويَجْلُو‏)‏ أي‏:‏ ويُوَضِّحُ مرادَهُ بالرَّمْزِ أو بالْحُمْرَةِ في أوَّلِ الكتابِ أو آخرِهِ على ما سبقَ، ولا يَعْتَمِدُ على حفظِهِ في ذلك وذِكْرِه، فرُبَّما نسي فالصوابُ- كما قالَ القاضي عياضٌ- أَنْ لا يتساهلَ في ذلك ولا يهملهُ، وقد يقعُ كتابُه إلى غيرِهِ فيقعُ في حَيْرةٍ من رموزِهِ، كما قالَ ابنُ الصلاحِ‏.‏

الإِشَاْرَةُ بِالرَّمْزِ

604‏.‏ وَاخْتَصَرُوْا فِي كَتْبِهِمْ ‏(‏حَدَّثَنَا‏)‏ *** عَلَى ‏(‏ثَنَا‏)‏ أَوْ ‏(‏نَا‏)‏ وَقِيْلَ‏:‏ ‏(‏دَثَنَا‏)‏

605‏.‏ وَاخْتَصَرُوْا ‏(‏أَخْبَرَنَا‏)‏ عَلَى ‏(‏أَنَا‏)‏ *** أَوْ ‏(‏أَرَنَا‏)‏ وَ ‏(‏الْبَيْهَقِيُّ‏)‏ ‏(‏أَبَنَا‏)‏

جَرتْ عادةُ أهلِ الحديثِ باختصارِ بعضِ ألفاظِ الأَداءِ في الخطِّ دونَ النُّطْقِ‏.‏ فمنْ ذلكَ‏:‏ حَدَّثَنَا‏.‏والمشهورُ عندَهم حذفُ شَطْرِها الأَوَّلِ، ويقتصرونَ مِنه على صُورة‏:‏ ثنا‏.‏ وربَّما اقتصروا على الضَّميرِ فقطْ، فكتبوا‏:‏ نا‏.‏ وربَّمَا اقتصروا على حذفِ الحاءِ فقطْ، فقالَوا‏:‏ دثنا‏.‏ وقالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ إنَّهُ رآه في خَطِّ الحاكمِ وأبي عبدِ الرحمنِ السُّلَميِّ والبَيهقيِّ‏.‏

ومن ذلكَ‏:‏ أخبرنا‏.‏ والمشهورُ في اختصارِها حذفُ أُصولِ الكلمةِ، والاقتصارُ على الأَلفِ والضميرِ، وربَّمَا لَمْ يَحْذِفْ بعضُهُمُ الراءَ، فقالَ‏:‏ أرنا‏.‏ وبعضُهُمْ يَحْذِفُ الخاءَ والراءَ، ويكتبُ‏:‏ أبنا، وقد فعلَهُ البيهقيُّ في طائفةٍ مِنَ الْمُحَدِّثِيْنَ، قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ وليسَ بِحَسَنٍ ‏(‏‏)‏‏.‏

606‏.‏ قُلْتُ‏:‏ وَرَمْزُ ‏(‏قالَ‏)‏ إِسْنَادَاً يَرِدْ *** ‏(‏قَافَاً‏)‏ وَقالَ الشَّيْخُ‏:‏ حَذْفُهَا عُهِدْ

607‏.‏ خَطَّاً وَلاَبُدَّ مِنَ النُّطْقِ كَذَا *** قِيْلَ لَهُ‏:‏ وَيَنْبَغِي النُّطْقُ بِذَا

وممَّا جَرتْ به عادةُ أهلِ الحديثِ حذفُ «قالَ» في أثناءِ الإسنادِ في الخطِّ، أَو الإشارةُ إليها بالرَّمْزِ‏.‏ فرأيتُ في بعضِ الكُتبِ المعتَمدةِ الإشارةَ إليها بقافٍ، فبعضُهم يجمعُها معَ أَداةِ التحديثِ فيكتبُ‏:‏ قثنا، يريدُ‏:‏ قالَ‏:‏ حَدَّثَنَا‏.‏ وقد توهَّمَ ‏(‏‏)‏ بعضُ مَنْ رأى هذا هكذا أَنَّها الواوُ التي تأتي بعدَ ‏(‏‏)‏ حَاءِ التحويلِ، وليسَ كذلكَ‏.‏ وبعضُهم يفردُها فيكتبُ‏:‏ ق ثنا، وهذا اصطلاحٌ متروكٌ‏.‏ وقالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ جرتِ العادةُ بحذفِها خطَّاً‏.‏ قالَ‏:‏ ولابدَّ من ذكْرِهِ حالَ القراءةِ لفظاً، قالَ‏:‏ وإذا تكرَّرتْ كلمةُ‏:‏ قالَ، كما في قولِهِ في كتابِ البخاريِّ ‏(‏‏)‏‏:‏ حَدَّثَنَا صالحُ بنُ حيانَ، قالَ‏:‏ قالَ عامرٌ الشَّعْبيُّ‏.‏ حذفوا إحداهُما في الخطِّ‏.‏ وعلى القارئِ أنْ يلفظَ بهما جميعاً ‏(‏‏)‏‏.‏ وقد سُئِلَ ابنُ الصلاحِ في ‏"‏فتاويهِ‏"‏ ‏(‏‏)‏ عن تركِ القارئِ «قالَ»، فقالَ‏:‏ هذا خطأٌ من فاعلِهِ، قالَ‏:‏ والأَظهرُ أَنَّهُ لا يَبْطُلُ السماعُ به؛ لأَنَّ حذفَ القولِ جائزٌ اختصاراً، وَقَدْ ‏(‏‏)‏ جاءَ بهِ القرآنُ العظيمُ، وكذا قالَ النوويُّ في ‏"‏ التقريبِ والتيسيرِ ‏"‏‏:‏ تَرْكُهَا خطأٌ، والظاهرُ صحةُ السماعِ ‏(‏‏)‏‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏كذا قيلَ لهُ‏)‏ أي‏:‏ كذا لفظُ «قيلَ لهُ»، فيما إذا كانَ في أَثناء الإسنادِ قُرِئَ على فلانٍ أخبركَ فلانٌ، قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ «فينبغي للقاري أنْ يقولَ فيهِ‏:‏ قيلَ لهُ أَخبركَ فلانٌ‏.‏ قالَ‏:‏ ووقَعَ في بعضِ ذلكَ‏:‏ قُرِئَ على فلانٍ حَدَّثَنَا فلانٌ‏.‏ فهذا يذكرُ فيهِ‏:‏ قالَ»‏.‏ انتهى ‏(‏‏)‏‏.‏ وقدْ كانَ بعضُ مَنْ لقيتُهُ من أَئِمَّةِ العربيةِ يُنكِرُ اشتراطَ المحدِّثينَ للتلفِّظِ بـ‏:‏ قالَ في أَثناءِ السَّنَدِ، وهو العلاَّمةُ شهابُ الدينِ عبدُ اللَّطيفِ بنُ عبدِ العزيزِ ابنِ المرحِّلِ‏.‏ وما أدري ما وجْهُ إنكارِهِ لذلكَ‏!‏ لأَنَّ الأَصلَ الفَصْلُ بين كلامَي المتكلمَيْنِ، للتمييزِ بينهُما، وحيثُ لم يُفْصَلْ فهو مُضْمَرٌ، والإضْمَاْرُ خلافُ الأَصلِ‏.‏

608‏.‏ وَكَتَبُوْا عِنْدَ انْتِقالٍ مِنْ سَنَدْ *** لِغَيْرِهِ ‏(‏ح‏)‏ وَانْطِقَنْ بِهَا وَقَدْ

609‏.‏ رَأَى الرَّهَاوِيُّ بأَنْ لاَ تُقْرَا *** وَأَنَّهَا مِنْ حَائِلٍ، وَقَدْ رَأَى

610‏.‏ بَعْضُ أُوْلِي الْغَرْبِ بِأَنْ يَقُوْلاَ *** مَكَانَهَا‏:‏ الْحَدِيْثَ قَطْ، وَقِيْلاَ

611‏.‏ بَلْ حَاءُ تَحْوِيْلٍ وَقالَ قَدْ كُتِبْ *** مَكَانَهَا‏:‏ صَحَّ فَحَا مِنْهَا انْتُخِبْ

جرتْ عادةُ أهلِ الحديثِ وكَتَبَتِهِ‏:‏ أنَّهُ إذا كانَ للحديثِ إسنادانِ فأكثرُ، وجمعُوا بينَ الأَسانِيدِ في متنٍ واحدٍ، أَنَّهم إذا انْتَقَلُوا مِنْ سَنَدٍ إلى إسْنَادٍ آخَرَ كتبوا بينهُمَا حاءً مفردةً مهملةً، صورة‏:‏ «ح»‏.‏ والذي عليهِ عملُ أهلِ الحديثِ أن ينطقَ القارئُ بها كذلك مفردةً‏.‏ واختارَهَ ابنُ الصلاحِ، وذهبَ الحافظُ أبو محمدٍ عبدُ القادرِ بنُ عبدِ اللهِ الرُّهاويُّ إلى أَنَّ القارئَ لا يتلفظُ بها، وأنّها حاءٌ مِنْ حَاْئِلٍ، أي‏:‏ تَحُوْلُ بينَ الإسنادينِ، وأنكرَ كونَهَا من قولهِم‏:‏ «الحديثَ» وغيرَ ذلكَ لَمَّا سَأَلَهُ ابنُ الصلاحِ عن ذلكَ‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ «وذاكرتُ فيها بعضَ أهلِ العلمِ من أهلِ الغَرْبِ، وحكيتُ له عن بعضِ مَنْ لقيتُ مِنْ أهلِ الحديثِ‏:‏ أَنَّها حاءٌ مهملةٌ، إشارةً إلى قولِنا‏:‏ «الحديث»، فقالَ لي‏:‏ أهلُ المغربِ ما عرفتُ بَيْنَهم اختلافاً يجعلونها حاءً مهملةً، ويقولُ أحدُهم إذا وصلَ إليها‏:‏ الحديث»‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ «وحكى لي بعضُ مَنْ جمعتْنِي وإيَّاهُ الرحلةُ بِخُرَاسَانَ عَمَّنْ وصَفَهُ بالفضلِ مِنَ الأصبهانِيِّيْنَ‏:‏ أَنَّها من التحويلِ، أي‏:‏ من إسنادٍ إلى إسنادٍ آخرَ»‏.‏ وقالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ «وجدْتُ بخطِّ الأُستاذِ الحافظِ أبي عثمانَ الصابونيِّ، والحافظِ أبي مسلمٍ عمرَ بنِ عليٍّ الليثيِّ البخاريِّ، والفقيهِ المحدِّثِ أبي سعيدٍ الخليليِّ ‏(‏‏)‏، في مكانِها بدلاً عنها «صَحّ» صريحةً‏.‏ قالَ‏:‏ وهذا يُشْعِرُ بكونِها رمزاً إلى «صَحّ»‏.‏ وَحَسُنَ إثباتُ صحَّ ههنا لِئَلاَّ يُتَوَهَّمَ أَنَّ حديثَ هذا الإسنادِ سَقَطَ، ولِئَلاَّ يُرَكَّبَ الإسنادُ الثاني على ‏(‏‏)‏ الأوَّلِ فيُجْعَلا إِسناداً واحداً» ‏(‏‏)‏‏.‏

كِتَاْبَةُ التَّسْمِيْعِ

612‏.‏ وَيَكْتُبُ اسْمَ الشَّيْخِ بَعْدَ الْبَسْمَلَهْ *** وَالسَّامِعِيْنَ قَبْلَهَا مُكَمَّلَهْ

613‏.‏ مُؤَرِّخَاً أَوْ جَنْبَهَا بِالطُّرَّهْ *** أَوْ آخِرَ الْجُزْءِ وَإِلاَّ ظَهْرَهْ

614‏.‏ بِخَطِّ مَوْثُوْقٍ بِخَطٍّ عُرِفَا *** وَلَوْ بِخَطِّهِ لِنَفْسِهِ كَفَى

615‏.‏ إِنْ حَضَرَ الْكُلَّ، وَإِلاَّ اسْتَمْلَى *** مِنْ ثِقَةٍ، صَحَّحَ شَيْخٌ أَمْ لاَ

قالَ الخطيبُ في كتابِ الجامعِ‏:‏ «يكتبُ الطالبُ بعدَ التسميةِ اسمَ الشيخِ الذي سمعَ الكتابَ منهُ، وكنيتَهُ، ونسبَهُ‏.‏ قالَ‏:‏ وصورةُ ما ينبغي أَنْ يكتُبَهُ‏:‏ حَدَّثَنَا أبو فلانٍ فلانُ بنُ فلانِ بنِ فلانٍ الفلانيُّ، قالَ‏:‏ حَدَّثَنَا فلانٌ، ويسوقَ ما سمعَهُ مِنَ الشَّيخِ على لفظِهِ»‏.‏ قالَ‏:‏ «وإذا كَتَبَ الطالبُ الكتابَ المسموعَ فينبغي أَنْ يكتبَ فوقَ سَطْرِ التسميةِ أسماءَ مَنْ سمعَ معهُ، وتاريخَ وقتِ السماعِ‏.‏ قالَ‏:‏ وإنْ أَحَبَّ كَتْبَ ذلكَ في حاشيةِ أَوَّلِ ورقةٍ مِنَ الكتابِ، فكلاهُما قد فَعَلَهُ شُيُوخُنا‏.‏ قالَ‏:‏ وإنْ كانَ سماعُهُ للكتابِ في مجالسَ عِدَّةٍ، كتبَ عند انتهاءِ السماعِ في كُلِّ مجلسٍ علامةَ البلاغِ، ويكتبُ في الذي يليهِ التسميعَ والتاريخَ كما حكيتُ في أولِ الكتابِ‏.‏ فعلى هذا شاهدتُ أُصولَ جماعةٍ من شيوخِنِا مرسومةً»‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ «ولا بأْسَ بكتبتهِ- أي‏:‏ التسميعِ- آخِرَ الكتابِ، وفي ظهرِهِ، وحيثُ لا يخفى موضعُهُ»‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏مُكَمَّلَهْ‏)‏ أي‏:‏ ويَكتبُ أسماءَ السامعينَ قبلَ البَسْمَلةِ مُكَمَّلَةَ الأَنْسابِ، والعددِ، فيكتبُ أسماءَهم وأسماءَ آبائِهِم وأجدادِهِم وأنسابِهِم التي يُعْرَفُونَ بها، ولا يسقطُ أحداً منُهْم‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ «وعليهِ الحذرُ من إسقاطِ اسمِ أحدٍ منهم لغرضٍ فاسدٍ»‏.‏ قالَ‏:‏ «وينبغي أَنْ يكونَ التسميعُ بخطِّ موثوقٍ بهِ غيرِ مجهولِ الخطِّ»‏.‏ قالَ‏:‏ «ولا بأْسَ على صاحبِ الكتابِ إذا كانَ موثوقاً به أَنْ يقتصِرَ على إثباتِ سماعِه بخطِّ نفسِهِ، فطالما فعلَ الثقاتُ ذلكَ» ‏(‏‏)‏‏.‏ قالَ‏:‏ «فإنْ كانَ مُثبتُ السماعِ غيرَ حاضرٍ في جميعهِ، لكنْ أثبتَهُ معتمداً على إخبارِ مَنْ يثقُ بخبرِهِ من حاضريْهِ، فلا بَأْسَ بذلكَ، إنْ شاءَ اللهُ تعالى» ‏(‏‏)‏‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏صَحَّحَ ‏(‏‏)‏ شيخٌ، أَمْ لا‏)‏ أي‏:‏ لا يُشترطُ كتابةُ الشيخِ المُسْمِعِ التصحيحَ على التسميعِ بعد أَنْ يكونَ كاتبُ السماعِ ثقةً‏.‏

616‏.‏ وَلْيُعِرِ الْمُسْمَى بِهِ إِنْ يَسْتَعِرْ *** وَإِنْ يَكُنْ بِخَطِّ مَالِكٍ سُطِرْ

617‏.‏ فَقَدْ رَأَى حَفْصٌ وَإِسْماعِيْلُ *** كَذَا الزُّبَيْرِيْ فَرْضَهَا إِذْ سِيْلُوْا

618‏.‏ إِذْ خَطُّهُ عَلَى الرِّضَا بِهِ دَلْ *** كَمَا عَلَى الشَّاهِدِ مَا تَحَمَّلْ

619‏.‏ وَلْيَحْذَرِ الْمُعَارُ تَطْوِيْلاً وَأَنْ *** يُثْبِتَ قَبْلَ عَرْضِهِ مَا لَمْ يُبَنْ

أي‏:‏ ومَنْ كانَ اسمُهُ في طبقةِ السَّماعِ فأرادَ أَنْ يستعيرَ الكتابَ من مالكِهِ ليستنسخَهُ، أو ينقلَ سماعَهُ منه، فَلْيُعِرْهُ إيَّاهُ استحباباً، فإنْ كانَ التَّسْميعُ بخطِّ مالكِ الكتابِ، فقد قالَ جماعةٌ من الأَئِمَّةِ بوجوبِ العاريَّةِ، فروى ابنُ خَلاَّدٍ‏:‏ أَنَّ رجلاً ادَّعى على رجلٍ بالكوفةِ سماعاً منعَهُ إيَّاهُ فتحاكما إلى قاضِيها حفصِ بنِ غياثٍ- وهو من الطبقةِ الأُولى من أصحابِ أبي حنيفةَ- فقالَ لصاحبِ الكتابِ‏:‏ أَخْرِجْ إلينا كُتُبَكَ، فما كانَ منْ سماعِ هذا الرجلِ بخطِّ يَدِكَ ألزمناكَ بهِ، وما كانَ بخطِّهِ أعفيناكَ منهُ‏.‏ قالَ ابنُ خَلاَّدٍ‏:‏ فسألتُ أبا عبدَ اللهِ الزُّبيريَّ-وهو من أئمةِ أصحابِ الشافعيِّ- عنْ هذا، فقالَ‏:‏ لا يجيءُ في هذا البابِ حُكْمٌ أحسنُ من هذا؛ لأنَّ خطَّ صاحبِ الكتابِ دالٌّ على رضاهُ باستماعِ صاحبهِ معهُ‏.‏ قالَ ابنُ خَلاَّدٍ‏:‏ «وقالَ غيرُهُ‏:‏ ليس بشيءٍ»‏.‏ وروى الخطيبُ‏:‏ أنَّهُ تُحُوْكِمَ في ذلكَ إلى إسماعيلَ بنِ إسحاقَ القاضي- وهو إمامُ أصحابِ مالكٍ- فأطرقَ مليَّاً، ثُمَّ قالَ‏:‏ للمدَّعَى عليهِ‏:‏ إنْ كانَ سماعُهُ في كتابِكَ بخطِّ يَدِكَ فَيَلْزَمُكَ أنْ تُعيرَهُ، وإنْ كانَ بخطِّ غيرِكَ فأنتَ أَعلمُ‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ «ويرجعُ حاصلُ أقوالهِم إلى أنَّ سماعَ غيرِهِ إذا ثبتَ في كتابِهِ برضاهُ فيلزمُهُ إعارتُهُ إيَّاهُ‏.‏ قالَ‏:‏ وقدْ كانَ لا يَبِيْنُ لي وَجْهُهُ، ثُمَّ وَجَّهْتُهُ بأنَّ ذلكَ بمنْزلةِ شهادةٍ لهُ عندَهُ، فيلزَمُهُ أداؤُها بما حَوَتْهُ، وإنْ كانَ فيهِ بذلُ مالِهِ، كما يلزمُ متحمِّلَ الشَّهادةِ أداؤُها، وإنْ كانَ فيهِ بذلُ نفسِهِ بالسَّعيِّ إلى مجلسِ الحكمِ لأَدائِها»‏.‏ انتهى‏.‏ ثُمَّ إذا أعارَهُ فليحذَرِ المعارُ لهُ مِنَ التطويلِ بالعاريَّةِ، والإبطاءِ بهِ عليهِ إلاَّ بقدرِ الحاجةِ، فقدْ روينا عن الزهريِّ أنَّهُ قالَ‏:‏ أيَّاَكَ وغُلُولَ الكُتُبِ قيلَ‏:‏ وما غُلُولُ الكُتُبِ‏؟‏ قالَ‏:‏ حَبْسُها عن أصحابِها‏.‏ وروينا عن الفُضَيْلِ بنِ عياضٍ، قالَ‏:‏ ليسَ مِنْ فَعَالِ العلماءِ أنْ يأخُذَ سماعَ رجلٍ وكتابهُ فيحبِسَهُ عنهُ»‏.‏ انتهى‏.‏ ثُمَّ إذا نسخَ الكتابَ فلا يُثْبِتُ سماعَهُ عليهِ ولا ينقلُهُ إلاَّ بعدَ العرضِ والمقابلةِ، وكذلكَ لا ينبغي إثباتُ سماعٍ على كتابٍ إلاَّ بعدَ المُقابلةِ، إلاَّ أنْ يُبَيِّنَ في النقلِ والإثباتِ أَنَّ النسخةَ غيرُ مُقابلةٍ‏.‏

صِفَةُ رِوَايَةِ الْحَدِيْثِ، وَأَدَائِهِ

620‏.‏ وَلْيَرْوِ مِنْ كِتَابِهِ وَإِْن عَرِي *** مِنْ حِفْظِهِ فَجَائِزٌ لِلأَكْثَرِ

621‏.‏ وَعَنْ أبي حَنِيْفَةَ الْمَنْعُ كَذَا *** عَنْ مَالِكٍ وَالصَّيْدَلاَنِيْ وَإِذَا

622‏.‏ رَأَى سَمَاعَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ فَعَنْ *** نُعْمَانٍ الْمَنْعُ وَقالَ ابْنُ الْحَسَنْ

623‏.‏ مَعَ أَبِي يُوْسُفَ ثُمَّ الشَّافِعِيْ *** وَالأَكْثَرِيْنَ بِالْجَوَازِ الْوَاسِعِ

اختلفوا في الاحتجاجِ بمَنْ لا يحفَظُ حديثَهُ، وإنَّمَا يحدِّثُ مِنْ كتابهِ مُعتمداً عليهِ‏.‏ فذهبَ الجمهورُ إلى جوازِ الروايةِ لذلكَ، وثبوتِ الحجَّةِ بهِ إذا كانَ قدْ ضَبَطَ سماعَهُ، وقابلَ كتابَهُ على الوجهِ الذي سَبَقَ ذكرُهُ في المقابلةِ‏.‏ ورُوِيَ عَنْ أبي حنيفةَ ومالكٍ‏:‏ أنَّهُ لا حجَّةَ إلاَّ فيما رواهُ الراوي من حفظِهِ وتذكُّرِه، وإليهِ ذهبَ أبو بكرٍ الصَّيْدلانيُّ المروزيُّ مِنَ الشَّافِعيةِ‏.‏ والصوابُ كما قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ الأولُ‏.‏

وإذا وجدَ سماعَهُ في كتابهِ وهو غيرُ ذاكرٍ لهُ فحُكِيَ عن أبي حنيفةَ أنَّهُ لا يُجَوِّزُ لهُ روايتَهُ‏.‏ وإليهِ ذهبَ بعضُ أصحابِ الشافعيِّ، وخالفَ أبا حنيفةَ في ذلكَ صاحباهُ‏:‏ محمدُ ابنُ الحسنِ، والقاضي أبو يوسفَ، فذهبا إلى الجوازِ‏.‏ وإليهِ ذهبَ الشافعيُّ وأكثرُ أصحابهِ، وقالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ «ينبغي أنْ يُبْنَى على الخلافِ في جوازِ اعتمادِ الراوي على كتابهِ في ضَبْطِ ما سمعَه، فإنَّ ضبْطَ أصلِ السَّماعِ كأَصلِ المسموعِ، فكما كانَ الصحيحُ وما عليهِ أكثرُ أهلِ الحديثِ تجويزَ الاعتمادِ على الكتابِ المصونِ في ضبطِ المسموعِ حتى يجوزَ لهُ أنْ يرويَ ما فيهِ، وإنْ كانَ لا يذكرُ أحاديثَهُ حديثاً حديثاً، كذلكَ ليكنْ هذا إذا وُجِدَ شرْطُهُ وهو أنْ يكونَ السماعُ بخطِّهِ أو بخطِّ مَنْ يثقُ بهِ، والكتابُ مصونٌ‏.‏ قالَ‏:‏ وهذا إذا سكنَتْ نفسُهُ إلى صحتِهِ فإنْ شكَّ فيهِ لم يَجُزِ الاعتمادُ عليهِ»‏.‏

624‏.‏ وَإِنْ يَغِبْ وَغَلَبَتْ سَلاَمَتُهْ *** جَازَتْ لَدَى جُمْهُوْرِهِم رِوَايَتُهْ

625‏.‏ كَذَلِكَ الضَّرِيْرُ وَالأُمِّيُّ *** لاَ يَحْفَظَانِ يَضْبُطُ الْمَرْضِيُّ

626‏.‏ مَا سَمِعَا وَالْخُلْفُ فِي الضَّرِيْرِ *** أَقْوَى، وَأَوْلَى مِنْهُ فِي الْبَصِيْرِ

إذا كانَ اعتمادُ الراوي على كتابِهِ دونَ حفظِهِ، وغابَ عنه الكتابُ بإعارةٍ، أو ضياعٍ، أو سرقةٍ، ونحوِ ذلكَ؛ فذهبَ بعضُ أهلِ التشديدِ في الروايةِ إلى أنَّهُ لا يجوزُ الروايةُ منهُ لغيبتِهِ عنهُ، وجوازِ التغييرِ فيهِ ‏(‏‏)‏‏.‏والصوابُ الذي عليهِ الجمهورُ أنَّهُ إذا كانَ الغالبُ على الظنِّ مِنْ أَمرِهِ سلامَتَهُ من التغييرِ والتبديلِ جازتْ لهُ الروايةُ منهُ، لا سِيَّمَا إذا كانَ ممَّنْ لا يخفى عليهِ في الغالبِ إذا غُيَّرَ ذلكَ، أو شيءٌ منهُ، لأنَّ بابَ الروايةِ مبنيٌ على غَلَبةِ الظنِّ ‏(‏‏)‏‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏كَذَلِكَ ‏(‏‏)‏ الضَّرِيْرُ والأُمِّيُّ‏)‏ أي‏:‏ كذلكَ يجري الخلافُ في الضريرِ والأُمِّيِّ اللَّذَينِ لا يحفظانِ حديثهَ ما‏.‏فإذا ضَبَطَ سماعَ هُمَا ثقةٌ، وحفظَا كتابيهِ ما عن التغييرِ بحيثُ يغلِبُ على الظنِّ سلامتُهُ؛صحتْ روايتُهما‏.‏قالَ الخطيبُ‏:‏ والسماعُ من البصيرِ الأَمِّيِّ والضريرِ اللذينِ لَمْ يحفظا ‏(‏‏)‏ من المحدِّثِ ما سمعاهُ منهُ، لكنَّهُ كُتِبَ لهما، بمثابةٍ واحدةٍ؛ قدْ منعَ منهُ غيرُ واحدٍ من العلماءِ، ورخصَ فيهِ بعضُهم ‏(‏‏)‏‏.‏وقالَ ابنُ الصلاحِ في الضَّريرِ الذي لَمْ ‏(‏‏)‏ يحفظْ حديثَهُ مِن فَمِ مَنْ حَدّثَهُ واستعانَ بالمأمونينَ في ضَبْطِ سماعِهِ وحِفْظِ كتابِهِ ثُمَّ عندَ روايتِهِ في القراءةِ منهُ عليهِ، واحتاطَ في ذلكَ على حَسبِ حالِهِ بحيثُ يحصلُ معهُ الظنُّ بالسلامةِ مِنَ التغييرِ صَحَّتْ روايتُهُ‏.‏غيرَ أنّهُ أَولى بالخلافِ من مثلِ ذلكَ في البصيرِ ‏(‏‏)‏‏.‏

الرِّوَاْيَةُ مِنَ الأَصْلِ

627‏.‏ وَلْيَرْوِ مِنْ أَصْلٍ أَوِ الْمُقَابَلِ *** بِهِ وَلاَ يَجُوْزُ بِالتَّسَاهُلِ

628‏.‏ مِمَّا بِهِ اسْمُ شَيْخِهِ أَوْ أُخِذَا *** عَنْهُ لَدَى الْجُمْهُوْرِ وَأَجَازَ ذَا

629‏.‏ أَيُّوْبُ وَالبُرْسَانِ قَدْ أَجَازَهْ *** وَرَخَّصَ الشَّيْخُ مَعَ الإِجَازَهْ

إذا أرادَ الراوي أن يُحدِّثَ ببعضِ مسموعاتِهِ فليرْوِهِ مِنْ أَصلِهِ الذي سمعَ منهُ، أو مِنْ نسخةٍ مقابلةٍ على أَصْلِهِ بمقابلةِ ثقةٍ، وهلْ لهُ أنْ يُحَدِّثَ مِنْ أَصلِ شيخِهِ الذي لم يسمعْ فيهِ هو، أو مِن نسخةٍ كُتبتْ عنْ شيخِهِ تسكنُ نفسُهُ إلى صحَّتِها‏؟‏ فذكرَ الخطيبُ ‏(‏‏)‏‏:‏ أنَّ عامَّةَ أصحابِ الحديثِ مَنَعُوا من روايتِهِ من ذلكَ، وجاءَ عن أيَّوبَ ومحمَّدِ بنِ بكرٍ الْبُرْسَانيِّ، الترخيصُ فيهِ‏.‏ وحُكِيَ عن أبي نَصْرِ بنِ الصَّبَّاغِ‏:‏ أنَّهُ قطعَ بأنَّهُ لا يجوزُ أنْ يرويَ من نسخةٍ سمعَ منها على شيخِهِ، وليسَ فيها سماعُهُ، ولا قُوبِلْتَ بنسخةِ سماعِهِ؛ وذلكَ لأنَّهُ قد يكونُ فيها زوائدُ ليستْ في نسخةِ سماعِهِ‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏ورَخَّصَ الشَّيْخُ‏)‏ أي‏:‏ ابنُ الصلاحِ، فقالَ‏:‏ «اللَّهُمَّ إلاَّ أنْ تكونَ لهُ إجازةٌ عَنْ شيخهِ عامَّةٌ لمروياتِهِ، أو نحوِ ذلكَ، فيجوزُ لهُ حينئذٍ الروايةُ منها إذ ليسَ فيه أَكْثَرُ من روايةِ تلك الزياداتِ بالإجازةِ بلفظ‏:‏ أخبرنا أو حَدَّثَنَا، من غيرِ بيانٍ للإجازَةِ فيها‏.‏ والأمرُ في ذلكَ قريبٌ يقعُ مثلُه في محلِّ التَّسَامحِ»‏.‏ قالَ‏:‏ «فإنْ كانَ الذي في النُّسْخَةِ سماعَ شيخِ شيخِهِ، أو هي مسموعةٌ على شيخِ شيخِهِ، أو مرويةٌ عن شيخِ شيخِهِ، فينبغي له حينئذٍ في روايتِهِ منها أَنْ تكونَ له إجازةٌ شاملةٌ من شيخِهِ، ولشيخِهِ إجازةٌ شاملةٌ من شيخِهِ‏.‏ قالَ‏:‏ وهذا تيسيرٌ حَسَنٌ، هدانا اللهُ لهُ» ‏(‏‏)‏‏.‏

630‏.‏ وَإِنْ يُخَالِفْ حِفْظُهُ كِتَابَهْ *** وَلَيْسَ مِنْهُ فَرَأَوْا صَوَابَهْ

631‏.‏ الْحِفْظَ مَعْ تَيَقُّنٍ وَالأَحْسَنُ *** الجَمْعُ كَالْخِلاَفِ مِمَّنْ يُتْقِنُ

إذا وجدَ الحافظُ للحديثِ في كتابهِ خلافَ ما يحفظُهُ، فإنْ كانَ إنَّمَا حَفِظَ من كتابهِ فليرجعْ إلى كتابِهِ‏.‏ وهذا معنى قولي‏:‏ ‏(‏وَلَيْسَ مِنْهُ‏)‏ أي‏:‏ وليسَ حفظُهُ من كتابهِ‏.‏ وإنْ كان حفظَهُ مِنْ فَمِ المحُدِّثِ، أو مِنَ القراءةِ على المحدِّثِ وهو غيرُ شاكٍّ في حفظِهِ فليعتمِدْ حفظَهُ، والأحسنُ أنْ يجمعَ بينهما، فيقول‏:‏ حفظي كذا، وفي كتابي كذا‏.‏ فهكذا فعلَ شعبةُ وغيرُ واحدٍ من الحفَّاظِ‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏كالخلافِ مِمَّنْ يُتقنُ‏)‏ أي‏:‏ كمسألةِ ما إذا حَفِظَ شيئاً وخالفَهُ فيهِ بعضُ الحفَّاظِ المتقنينَ فإنَّهُ يحسنُ فيه أيضاً بيانُ الأمرينِ، فيقولُ‏:‏ حفظِي كذا وكذا، وقالَ فيهِ فلانٌ‏:‏ كذا وكذا، ونحوُ ذلكَ‏.‏ وقدَ فعلَ ذلكَ سفيانُ الثوريُّ وغيرُهُ‏.‏

الرِّوَاْيَةُ بِالْمَعْنَى

632‏.‏ وَلْيَرْوِ بِالأَلْفَاظِ مَنْ لاَ يَعْلَمُ *** مَدْلُوْلَهَا وَغَيْرُهُ فَالْمُعْظَمُ

633‏.‏ أَجَازَ بِالْمَعْنَى وَقِيْلَ‏:‏ لاَ الْخَبَرْ *** وَالشَّيْخُ فِي التَّصْنِيْفِ قَطْعَاً قَدْ حَظَرْ

634‏.‏ وَلْيَقُلِ الرَّاوِي‏:‏ بِمَعْنَىً، أَوْ كَمَا *** قالَ وَنَحْوُهُ كَشَكٍّ أُبْهِمَا

لا يجوزُ لمنْ لا يعلمُ مدلولَ الألفاظِ ومقاصدَها، وما يحيلُ معانيها أنْ يرويَ ما سمعَهُ بالمعنى دونَ اللفظِ بلا خلافٍ‏.‏ بلْ يَتَقَيَّدُ بلفظِ الشيخِ، فإنْ كانَ عالماً بذلكَ جازتْ لهُ الروايةُ بالمعنى عندَ أكثرِ أهلِ الحديثِ والفقهِ والأصولِ‏.‏ ومنعَ بعضُ أهل الحديثِ والفقهِ مطلقاً ‏(‏‏)‏‏.‏ وقولي‏:‏ ‏(‏وغيرُهُ‏)‏، ليستْ الواوُ للعطفِ، بل للأستئنافِ، أي‏:‏ وأَمَّا غيرُهُ وهو الذي يعلمُ مدلولَ الألفاظِ‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏وقيل‏:‏ لا الخبرَ‏)‏ أي‏:‏ وقيلَ‏:‏ لا تجوزُ الروايةُ بالمعنى ‏(‏‏)‏ في الخبرِ، وهو حديثُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ويجوزُ في غيرِهِ ‏(‏‏)‏، والقولُ الأولُ هو الصحيحُ‏.‏ وقد روينا عن غيرِ واحدٍ من الصحابةِ التصريحَ بذلكَ، ويدلُّ على ذلكَ روايتُهم للقصَّةِ الواحدةِ بألفاظٍ مختلفةٍ‏.‏ وقد وردَ في المسألةِ حديثٌ مرفوعٌ رواهُ ابنُ مَنْدَه في ‏"‏ معرفة ‏(‏‏)‏ الصحابةِ ‏"‏ ‏(‏‏)‏، من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ سُليمانَ ابنِ أُكَيْمَةَ اللَّيْثِيِّ ‏(‏‏)‏، قالَ‏:‏ قلتُ يا رسولَ اللهِ‏:‏ إنِّي أسمعُ منكَ الحديثَ لا أستطيعُ أنْ أُؤَدِّيَهُ كما أسمعُ منكَ، يزيدُ حرفاً، أو ينقصُ حرفاً، فقالَ‏:‏ إِذْ لم تُحِلُّوْا حَرَاماً، ولم تُحَرِّمُوا حَلاَلاً، وأَصبتُمُ المعنى، فلا بأسَ‏.‏ فَذُكِرَ ذلكَ للحَسَنِ، فقالَ‏:‏ لولا هذا ما حَدَّثَنَا‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ «ثُمَّ إِنَّ هذا الخلافَ لا نراهُ جارياً ولا أَجراهُ الناسُ فيما نعلمُ فيما تضَمَّنتْهُ بطونُ الكتبِ، فليسَ لأَحدٍ أنْ يغيِّرَ لفظَ شيءٍ من كتابٍ مصنَّفٍ ويُثْبِتَ بدلَهُ فيه لفظاً آخرَ بمعناهُ‏.‏ فإِنّ الروايةَ بالمعنى رخصَ فيها مَنْ رخصَ، لما كانَ عليهِم في ضبطِ الألفاظِ والجمودِ عليها من الْحَرَجِ والنَّصَبِ، وذلكَ غيرُ موجودٍ فيما اشتملَتْ عليهِ بطونُ الأوراقِ والكتبِ، ولأنَّهُ إنْ ملكَ تغييرَ اللفظِ، فليسَ يملكُ تغييرَ تصنيفِ غيرِه، واللهُ أعلمُ» ‏(‏‏)‏‏.‏ وقدْ تَعَقَّبَ كلامَهُ ابنُ دقيقِ العيدِ، فقالَ‏:‏ إنَّهُ كلامٌ فيهِ ضَعْفٌ ‏(‏‏)‏، قالَ‏:‏ «وأَقلُّ ما فيهِ أَنَّهُ يقتضِي تجويزَ هذا فيما يُنْقَلُ مِنَ المصنَّفَاتِ إلى أجزائِنِا وتخاريجِنِا، فإنَّهُ ليسَ فيهِ تغييرُ التصنيفِ ‏(‏‏)‏ المتقدِّمِ‏.‏ قالَ‏:‏ وليسَ هذا جارياً على الاصطلاحِ، فإنَّ الاصطلاحَ على أنْ لا تُغَيَّرَ الألفاظُ بعدَ الانتهاءِ إلى الكتبِ المصنفةِ سواءٌ رَويناها فيها أو نَقَلْناها منها» ‏(‏‏)‏، ‏(‏قلتُ‏:‏ لا نسلِّمُ أَنَّهُ يقتضي جوازَ التغييرِ فيما نقلناهُ إلى تخاريجِنا، بلْ لا يجوزُ نقلُهُ عن ذلكَ الكتابِ، إلاَّ بلفظِهِ دونَ معناهُ، سواءٌ في تصانيفِنا، أو غيرِها، واللهُ أعلمُ‏)‏ ‏(‏‏)‏‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏حَظَرْ‏)‏ أي‏:‏ مَنَعَ من قولهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ وَمَاْ كَاْنَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوْرَاً‏}‏، أي‏:‏ ممنوعاً‏.‏ وينبغي لمَنْ روى بالمعنى أنْ يقولَ، أو كما قالَ، أو نحوَ هذا، وما أَشبَه ذلكَ‏.‏ فقد وردَ ذلكَ عن ابنِ مسعودٍ، وأبي الدرداءِ، وأنسٍ، وَهُمْ مِنْ أعلَمِ الناسِ بمعاني الكلامِ‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏كَشَكٍّ أُبْهِمَا‏)‏ أي‏:‏ كمسألةِ ما إذا شكَّ القارئُ أو الشيخُ في لفظةٍ أو أكثرَ فقرأَها على الشكِّ، فإنَّهُ يحسنُ أنْ يقولَ‏:‏ أو كما قالَ‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ «وهو الصوابُ في مثلِهِ؛ لأنَّ قولَهُ‏:‏ أو كَمَا قالَ، يتضمنُ إجازةً من الرَّاوِي وإذناً في روايةِ صوابِها عنهُ، إذا بانَ‏.‏ ثُمَّ لا يُشترطُ إفرادُ ذلكَ بلفظةِ الإجازةِ لِمَا بَيَّنَّاهُ قريباً»‏.‏

الاقْتِصَاْرُ عَلَى بَعْضِ الْحَدِيْثِ

635‏.‏ وَحَذْفَ بَعْضِ الْمَتْنِ فَامْنعَ او أَجِزْ *** أَوْ إِنْ أُتِمَّ أَوْ لِعَالِمٍ وَمِزْ

636‏.‏ ذَا بِالصَّحِيْحِ إِنْ يَكُنْ مَا اخْتَصَرَهْ *** مُنْفَصِلاً عَنِ الَّذِي قَدْ ذَكَرَهْ

637‏.‏ وَمَا لِذِي تُهْمَةٍ أَنْ يَفْعَلَهْ *** فَإِنْ أَبَى فَجَازَ أَنْ لاَ يُكْمِلَهْ

638‏.‏ أَمَّا إِذَا قُطِّعَ فِي الأبوابِ *** فَهْوَ إلى الْجَوَازِ ذُو اقْتِرَابِ

اختلفَ العلماءُ في جوازِ الاقتصارِ على بعضِ الحديثِ، وحذفِ بعضِهِ، على أقوالٍ‏:‏

أحدُها‏:‏ المنعُ مطلقاً‏.‏

والثاني‏:‏ الجوازُ مطلقاً‏.‏

وَيَنْبَغِي تَقْييدُ الإطلاقِ بما إذا لم يكنِ المحذوفُ مُتعلِّقاً بالمأتيِّ بِهِ تَعَلُّقاً يُخِلُّ بالمعنى حَذْفُهُ، كالاستثناءِ، والحالِ، ونحوِ ذلكَ، كما سيأتي في القولِ الرابعِ‏.‏ فإنْ كانَ كذلكَ لم يَجُزْ بلا خلافٍ، وبهِ جزمَ أبو بكرٍ الصَّيْرَفيُّ ‏(‏‏)‏ وغيرُهُ، وهو واضحٌ‏.‏

والثالثُ‏:‏ أَنَّهُ إِنْ لم يكنْ رواهُ على التمامِ مَرَّةً أخرى هو أو غيرُهُ، لم يَجُزْ‏.‏ وإنْ كانَ رواهُ على التمَامِ مَرَّةً أُخرى هو أو غيرُه جازَ ‏(‏‏)‏‏.‏ وإليهِ الإشارةُ بقولي‏:‏ ‏(‏أو إنْ أُتِمَّ‏)‏ أي‏:‏ أو أجِزْهُ إِنْ أَتَمَّ مرَّةً ما، منهُ أو من غيرِهِ‏.‏

والقولُ الرابعُ‏:‏ وهو الصحيحُ كما قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ «إنَّهُ يجوزُ ذلكَ مِنَ العالمِ العارفِ إذا كانَ ما تركَهُ متمَيّزاً عمَّا نَقَلَهُ، غيرَ متعلِّقٍ بهِ، بحيثُ لا يختلُّ البيانُ، ولا تختلفُ الدلالةُ، فيما نَقَلَهُ بتركِ ما تَرَكَهُ‏.‏ قالَ‏:‏ فهذا ينبغي أنْ يُجَوَّزَ، وإنْ لم يَجُزِ النقلُ بالمعنى ‏(‏‏)‏ ؛ لأنَّ ذلكَ بمنْزلةِ خبرينِ منفصلينِ» ‏(‏‏)‏‏.‏ وإلى تصحيحِ هَذَا القولِ الإشارةُ بقولي‏:‏ ‏(‏وَمِزْ ذا بالصَّحِيحِ‏)‏‏.‏

وليسَ للمُتَّهمِ أنْ يحذفَ بعضَ الحديثِ، كما ذكرَ الخطيبُ ‏(‏‏)‏ أنَّ مَنْ روى حديثاً على التَّمامِ، وخافَ إِنْ رواهُ مرَّةً أُخرى على النقصانِ أَنْ يُتَّهَمَ بأَنَّهُ زادَ في أَولِ مرَّةٍ ما لَمْ يكنْ سَمِعَهُ أو أَنَّهُ نسيَ في الثاني باقي الحديثِ؛ لقلَّةِ ضَبْطِهِ، وكثرةِ غَلَطِهِ، فواجبٌ عليهِ أَنْ ينفي هذهِ الظِنَّةَ عنْ نفسِهِ‏.‏ وقالَ سُلَيمٌ الرَّازيُّ‏:‏ «مَنْ رَوَى بعضَ الخبرِ، ثُمَّ أرادَ أنْ ينقلَ تمامَهُ، وَكَانَ ممَّنْ يُتَّهَمُ بأنَّهُ زادَ في حديثِه ِ؛ كانَ ذلكَ عُذْرَاً لهُ في تركِ الزيادةِ، وكتمانِها» ‏(‏‏)‏‏.‏ وإليهِ الإشارةُ بقولي‏:‏ ‏(‏فإنْ أبى‏)‏ أي‏:‏ فإنْ خَالَفَ،

ورواهُ ‏(‏‏)‏ ناقصاً مرَّةً، فجازَ أنْ لا يكمِلَهُ بعدَ ذلكَ‏.‏قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ «مَنْ كانَ هذا حالُهُ، فليسَ لهُ منَ الابْتِدَاءِ، أنْ يرويَ الحديثَ غيرَ تامٍّ، إذا كانَ قدْ تعيَّنَ عليهِ أَدَاءُ تمامِهِ؛ لأنَّهُ إذا رواهُ أوَّلاً ناقصاً، أخرجَ باقِيَهُ عن حَيِّزِ الاحتجاجِ بهِ، ودارَ بينَ أنْ لا يرويَهُ ‏(‏‏)‏ أصلاً فيضيِّعَهُ رأساً، وبينَ أنْ يرويَهُ متَّهماً فيهِ، فيضيِّعَ ثمرتَهُ؛ لسقوطِ الحجَّةِ فيهِ» ‏(‏‏)‏‏.‏

وأَمَّا تقطيعُ المصنِّفِ للحديثِ الواحدِ، وتفريقُهُ في الأبوابِ بِحَسَبِ الاحتجاجِ بهِ عَلَى مسألةٍ مسألةٍ، فَهُوَ إِلَى الجوازِ أقربُ، وَقَدْ فعلَهُ الأَئِمَّةُ‏:‏ مالكٌ وأحمدُ والبخاريُّ وأبو داودَ والنسائيُّ وغيُرهُم من الأَئِمَّةِ ‏(‏‏)‏‏.‏ وحَكَى الخَلاّلُ عن أحمدَ‏:‏ أَنَّهُ ينبغي أَنْ لا يُفْعلَ ‏(‏‏)‏‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ «ولا يَخْلُو مِنْ كَرَاهِيَةٍ» ‏(‏‏)‏‏.‏

التَّسْمِيْعُ بِقِرَاءَةِ اللَّحَّاْنِ، وَالْمُصَحِّفِ

639‏.‏ وَلْيَحْذَرِ اللَّحَّانَ وَالْمُصَحِّفَا *** عَلَى حَدِيْثِهِ بِأَنْ يُحَرِّفَا

640‏.‏ فَيَدْخُلاَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ مَنْ كَذَبَا *** فَحَقٌّ النَّحْوُ عَلَى مَنْ طَلَبَا

641‏.‏ وَالأَخْذُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ لاَ الْكُتُبِ *** أَدْفَعُ لِلتَّصْحِيْفِ فَاسْمَعْ وَادْأَبِ

أي ‏(‏‏)‏‏:‏ وليحذرِ الشَّيْخُ أنْ يرويَ حديثَهُ بقراءةِ لَحَّانٍ أو مُصَحِّفٍ‏.‏ فقد روينا عنْ الأصمعيِّ قالَ‏:‏ إنَّ أخوفَ ما أخافُ على طالبِ العلمِ إذا لم يعرفِ النَّحْوَ أنْ يدخلَ في جملةِ قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَنْ كَذَبَ عليَّ فليتبوَّأْ مقعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ‏(‏‏)‏، لأنَّهُ لم يكن يَلْحَنُ،

فمَهْمَا رويتَ عنهُ ولحنتَ فيه كذبتَ عليهِ ‏(‏‏)‏‏.‏ وقد روينا نحوَ ‏(‏‏)‏ هذا عن حمَّادِ بنِ سلمةَ أنَّهُ قالَ لإِنْسَاْنٍ‏:‏ إنْ لحنتَ في حَدِيْثِي فقدْ كذبتَ عليَّ، فإنِّي لا أَلْحَنُ ‏(‏‏)‏‏.‏ وقدْ كانَ حمَّادٌ إمَامَاً في ذلكَ‏.‏ وقدْ روينا ‏(‏‏)‏ أنَّ سيبويهِ شكاهُ إلى الخليلِ بنِ أحمدَ، قالَ‏:‏ سألتُهُ عن حديثِ هِشامِ بنِ عُرْوةَ عن أبيهِ في رجلٍ رَعُفَ ‏(‏‏)‏، فانتهرني، وقالَ لي ‏(‏‏)‏‏:‏ أخطأتَ، إنَّمَا هو رَعَفَ، أي‏:‏- بفتحِ العينِ-، فقالَ لهُ الخليلُ‏:‏ صدقَ، أَتَلْقَى بهذا الكلامِ أبا أسامةَ‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ «فحقَّ على طالبِ الحديثِ أنْ يتعلمَ مِنَ النَّحْوِ واللُّغَةِ ما يتخلَّصُ بهِ عن ‏(‏‏)‏ شَيْنِ اللَّحْنِ، والتحريفِ، ومَعَرَّتِهمَا» ‏(‏‏)‏‏.‏ وروى الخطيبُ عن شعبةَ قالَ‏:‏ مَنْ طَلَبَ الحديثَ ولم يُبْصِرِ العربيةَ كمثل رَجُلٍ عليه بُرْنُسٌ، وليسَ لهُ رأسٌ ‏(‏‏)‏‏.‏ وروى الخطيبُ أيضاً عن حمَّادِ بنِ سلمةَ، قالَ‏:‏ مَثَلُ الذي يطلبُ الحديثَ ولا يعرفُ النحوَ، مَثَلُ الحمَارِ عليهِ مِخْلاَةٌ لا شعيرَ فيها ‏(‏‏)‏‏.‏ فبتعلُّمِ النَّحْوِ يسلمُ من اللَّحنِ‏.‏ وأما السلامةُ من التصحيفِ فسبيلُها الأَخْذُ من أفواهِ أهلِ العلمِ، والضبطِ عنهم، لا من بُطُونِ الكُتُبِ، فقلَّمَا سَلِمَ من التصحيفِ مَنْ أخذَ العلمَ مِنَ الصُّحُفِ من غيرِ تدريبِ المشايخِ‏.‏

إِصْلاَحُ اللَّحْنِ، وَالْخَطَأِ

642‏.‏ وَإِنْ أَتَى فِي الأَصْلِ لَحْنٌ أَوْ خَطَا *** فَقِيْلَ‏:‏ يُرْوَى كَيْفَ جَاءَ غَلَطَا

643‏.‏ وَمَذْهَبُ الْمُحَصِّلِيْنَ يُصْلَحُ *** وَيُقْرَأُ الصَّوَابُ وَهْوَ الأَرْجَحُ

644‏.‏ فِي اللَّحْنِ لاَ يَخْتَلِفُ الْمَعْنَى بِهِ *** وَصَوَّبُوْا الإِبْقَاءَ مَعْ تَضْبِيْبِهِ

645‏.‏ وَيُذْكَرُ الصَّوَابُ جَانِبَاً كَذَا *** عَنْ أَكْثَرِ الشُّيُوْخِ نَقْلاً أُخِذَا

646‏.‏ وَالْبَدْءُ بِالصَّوَابِ أَوْلَى وَأَسَدْ *** وَأَصْلَحُ الإِصْلاَحِ مِنْ مَتْنٍ وَرَدْ

إذا وقعَ في الأصلِ لحنٌ أو تحريفٌ، فقيلَ‏:‏ يُرْوَى على الخطإِ، كما وقعَ‏.‏ حُكِيَ ذلكَ عن ابنِ سيرينَ وعبدِ اللهِ بنِ سَخْبَرَةَ‏.‏ وقيلَ‏:‏ يُصلحُ ويُقرأُ على الصوابِ، وإليهِ ذهبَ الأوزاعيُّ وابنُ المباركِ والْمُحَصِّلُوْنَ مِنَ العلماءِ والمحدِّثينَ، لا سِيَّما في اللَّحْنِ الذي لا يختلفُ المعنى بهِ‏.‏ وإصلاحُ مثلِ ذلكَ لازمٌ على تجويزِ الروايةِ بالمعنى، وهوَ قولُ الأكثرينَ، وقد ذكرَ ابنُ أبي خيثمةَ في كتابِ ‏"‏ الإِعرابِ ‏"‏ لهُ‏:‏ أَنَّهُ سُئِلَ الشعبيُّ والقاسمُ بنُ محمدٍ وعطاءٌ ومحمدُ بنُ عليِّ بنِ الحسينِ‏:‏ الرجلُ يحدِّثُ بالحديثِ فيلحَنُ أَأُحَدِّثُ كَمَا سمعتُ‏؟‏ أو أعْرِبُهُ‏؟‏ فقالَوا‏:‏ لا، بل اعْرِبْهُ‏.‏ واختارَ الشيخُ عزُّ الدينِ بنُ عبدِ السَّلاَمِ في هذه المسألةِ تَرْكَ الخطأِ والصوابِ أيضاً، حكاهُ عنه ابنُ دقيقِ العيدِ في ‏"‏ الاقتراحِ ‏"‏، فقالَ‏:‏ سمعتُ أبا محمدِ بنَ عبدِ السَّلامِ، وكانَ أحدَ سلاطينِ العلماءِ، كانَ يَرى في هذه المسألةِ ما لَمْ أرَهُ لأحدٍ، أنَّ هذا اللفظَ المحتملَ لا يُرْوَى على الصوابِ ولا على الخطأِ‏.‏ أما على الصوابِ، فإِنّهُ لَمْ يسمعْ مِنَ الشَّيْخِ كذلكَ، وأمَّا عَلَى الخطأِ فلأَنَّ سَيدَنا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلملم يقلْهُ كذلكَ، وهذا معنى ما قالَهُ أو قريبٌ منهُ‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏في اللَّحْنِ‏)‏، هو متعلقٌ بقولي‏:‏ ‏(‏وَهْوَ الأَرْجَحُ‏)‏ أي‏:‏ الأرجحُ في هذهِ الصورةِ لا مطلقاً‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ وأمَّا إصلاحُ ذلكَ وتغييرهُ في كتابهِ وأَصلهِ، فالصوابُ تَرْكُهُ، وتقريرُ ما وقعَ في الأَصلِ على ما هوَ عليهِ معَ التَّضْبِيْبِ عليهِ، وبيانِ الصَّوَابِ خَارِجَاً في الحاشِيَةِ‏.‏ وحكاهُ القاضي عياضٌ عن عملِ أكثرِ الأَشياخِ‏.‏ قالَ أبو الحسينِ بنُ فارسٍ‏:‏ وهذا أحسنُ ما سمعتُ في هذا البابِ‏.‏

ثُمَّ إذا قرأَ الرَّاوي، أوِ القارئُ عليهِ شيئاً من ذلكَ، فإنْ شاءَ قَدَّمَ ما وقعَ في الأَصلِ، والروايةِ ثُمَّ يُبَيِّنُالصَّوابَ‏.‏وإنْ شَاءَ قَدَّمَ مَا هُوَ الصَّوابُ ثُمَّ قالَ‏:‏ وقعَ في الروايةِ كذا وكذا‏.‏وهذا أَوْلَى مِنَ الأَوَّل كَيْلاَيقولَ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ما لَمْ يَقُلْ‏.‏قالَهُ ابنُ الصلاحِ قالَ‏:‏ «وأَصلحُ ما يعتمدُ عليهِ في الإصلاحِ أنْ يكونَ ما يصلحُ بهِ الفاسدُ قدْ وردَ في أحاديثَ أُخَرَ، فإنَّ ذاكِرَهُ آمنٌ مَنْ أنْ يكونَ متقوِّلاً على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ما لم يَقُلْ»‏.‏

647‏.‏ وَلْيَأْتِ فِي الأَصْلِ بِمَا لاَ يَكْثُرُ *** كَابْنٍ وَحَرْفٍ حَيْثُ لاَ يُغَيِّرُ

648‏.‏ وَالسَّقْطُ يُدْرَى أَنَّ مِنْ فَوْقُ أَتَى *** بِهِ يُزَادُ بَعْدَ يَعْنِي مُثْبَتَا

إذا كانَ الساقطُ من الأَصلِ شيئاً يسيراً يُعْلَمُ أنَّهُ سقطَ في الكتابةِ، وهو معروفٌ كلفظِ‏:‏ ابنِ في النسبِ، وكحرفٍ لا يختلفُ المعنى بهِ، فلا بَأْسَ بإلحاقِهِ في الأصلِ من غيرِ تنبيهٍ على سقوطِهِ‏.‏ وقد سألَ أبو داودَ أحمدَ بنَ حنبلٍ فقالَ‏:‏ وجدْتُ في كتابي‏:‏ «حَجَّاجٌ عن جُرَيْجٍ عن أبي الزُّبَيْرِ»، يجوزُ لي أنْ أُصلحَهُ‏:‏ «ابنُ جريجٍ‏؟‏» فقالَ‏:‏ أرجو أنْ يكونَ هَذَا لا بأسَ بهِ‏.‏ وقيلَ لمالكٍ‏:‏ أرأيتَ حديثَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يُزادُ فيهِ الواوُ والألفُ، والمعنى واحدٌ‏؟‏ فقالَ‏:‏ أرجو أنْ يكونَ خفيفاً‏.‏ انتهى‏.‏ وإذا كانَ الساقطُ يُعلمُ أنَّهُ سقطَ من بعضِ مَنْ تأخَّرَ من رواةِ الحديثِ، وأنَّ مَنْ فوقَهُ من الرواةِ أَتى بهِ، فإنَّهُ يُزادُ في الأصلِ، ويُؤتَى قبلَهُ بلفظِ‏:‏ يعني، كما فعلَ الخطيبُ إذ روى عن أبي عُمَرَ ابنِ مهديٍّ عن المحامليِّ بسنِدهِ إلى عُرْوَةَ عن عَمْرَة- يعني- عن عائشةَ قالَتْ‏:‏ كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُدْنِي إليَّ رأسَهُ فأُرَجِّلُهُ‏.‏ قالَ الخطيبُ‏:‏ كانَ في أصلِ ابنِ مهديٍّ «عن عَمْرَةَ، قالَتْ‏:‏ كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُدْنِي إِليَّ رأسَهُ»‏.‏ فأَلْحَقْنَا فيهِ ذكرَ ‏(‏عائشةَ‏)‏، إذ لم يكنْ منهُ بُدٌّ‏.‏ وعَلِمْنا أنَّ المحامليَّ كذلكَ رواهُ، وإنَّما سقطَ مِنْ كتابِ شيخِنا، وقلنا فيهِ‏:‏ «يعني عن عائشةَ»؛ لأنَّ ابنَ مهديٍّ لم يقلْ لنا ذلكَ‏.‏ قالَ‏:‏ وهكذا رأيتُ غيرَ واحدٍ من شيوخِنا يفعلُ في مثلِ هذا، ثُمَّ روى عن وكيعٍ قالَ‏:‏ «أنا استعينُ في الحديثِ بـ‏:‏ يعني»‏.‏

649‏.‏ وَصَحَّحُوْا اسْتِدْرَاكَ مَا دَرَسَ في *** كِتَابِهِ مِنْ غَيْرِهِ إِنْ يَعْرِفِ

650‏.‏ صِحَّتَهُ مِنْ بَعْضِ مَتْنٍ أَوْ سَنَدْ *** كَمَا إذَا ثَبَّتَهُ مَنْ يُعْتَمَدْ

651‏.‏ وَحَسَّنُوا الْبَيَانَ كَالْمُسْتَشْكِلِ *** كَلِمَةً فِي أَصْلِهِ فَلْيَسْألِ

إذا دُرِسَ من كتابهِ بعضُ المتنِ، أو الإسنادِ بتقطيعٍ، أو بللٍ، أو نحوِ ذلكَ فإنَّهُ يجوزُ له استدراكُهُ من كتابِ غيرِهِ، إذا عرفَ صحتَهُ، ووَثِقَ بصاحبِ الكتابِ، بأنْ يكونَ قد أَخَذَهُ عن شيخِهِ، وهو ثقةٌ، أو نحوَ ذلكَ على الصحيحِ‏.‏ وممَّنْ فعلَ ذلكَ نُعَيمُ بنُ حَمَّادٍ‏.‏ وذهبَ بعضُ المحدِّثينَ إلى المنعِ مِنْ ذلكَ‏.‏ قالَ الخطيبُ‏:‏ «ولو بَيَّنَ ذلكَ كانَ أولى»‏.‏ وهكذا الحكمُ فيما إذا شكَّ المحدِّثُ في شيءٍ فاستثْبَتَهُ مِنْ ثقةٍ غيرِهِ من حفظِهِ، أو كتابهِ، كما رُوِيَ ذلكَ عن أبي عوانةَ وأحمدَ بنِ حنبلٍ، وغيرِهما‏.‏ ويحسُنُ أنْ يُبَيِّنَ مَنْ ثَبَّتَهُ كما فعلَ يزيدُ بنُ هارونَ، وغيرُهُ، وقدْ روينا في ‏"‏ مسندِ أحمدَ ‏"‏، قالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يزيدُ بنُ هارونَ، قالَ‏:‏ أخبرنا عاصمٌ بالكوفةِ، فلَمْ اكتبْهُ فسمعْتُ شعبةَ يُحَدِّثُ بهِ، فعرفتُهُ بهِ عن عاصمٍ، عن عبدِ الله بنِ سَرْجِسَ‏:‏ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كانَ إذا سافرَ قالَ‏:‏ اللهُمَّ إني أعوذُ بكَ مِنْ وَعْثَاءِ السفرِ، … الحديثَ‏.‏ وفي غيرِ المُسْنَدِ عن يزيدَ، قالَ‏:‏ أخبرنا عاصمٌ وثَبَّتَنِي شُعبةُ، فإنْ بَيَّنَ أَصلَ التثبيتِ، ولم يُبَيِّنْ مَنْ ثبَّتَهُ، فلا بأسَ بهِ، فعلَهُ أبو داودَ في ‏"‏سُنَنِهِ‏"‏ عَقِبَ حديثِ الحكمِ بنِ حَزْنٍ الكُلَفِيِّ، فقالَ‏:‏ ثَبَّتَنِي في شيءٍ منهُ بعضُ أصحابِنا‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏كالمُسْتَشْكِلِ‏)‏، أي‏:‏ كما الحكمُ كذلكَ في مسألةِ ما إذا وجدَ في أصلِهِ كلمةً مِنْ غريبِ العربيةِ، أو غيرِها غيرَ مُقَيَّدةٍ، وأشكلتْ عليهِ، فجائزٌ أنْ يسألَ عنها أهلَ العلمِ بها، ويرويها على ما يخبرونَهُ بهِ، رُوِيَ مثلُ ذلكَ عَنْ أَحَمدَ وإسحاقَ وغيرِهما‏.‏